من العراق 2003 إلى لبنان 2006 فغزة 2025: الفشل نفسه يؤدي إلى العواقب نفسها

الحرب في غزة وجهود إنهائها أبعد ما تكونان عن إطلاق مخاض شرق أوسط جديد.
الثلاثاء 2025/10/21
ماذا بعد لحظة الانتشاء الأولى

سلسلة الحروب التي شهدتها المنطقة وكانت الولايات المتحدة وإسرائيل طرفا فيها بطريقة أو بأخرى، بدءا من الحرب في العراق ومرورا بلبنان ووصولا إلى غزة والقرارات المتسرّعة في خوضها والتسويات السطحية التي أعقبتها، لا تنبئ بتغير جذري في الشرق الأوسط يقوده إلى سلام دائم وهدوء فريد.

بيروت - لا تقل الطريقة التي تجري بها معالجة الحرب في قطاع غزّة ومحاولات إنهائها، سطحية وتسرّعا عن الحرب بحد ذاتها والأسباب التي فجرتها والذرائع التي اتخذت للتمادي فيها على هذا النحو الكارثي، وذلك في تكرار لسيناريوهات حروب سابقة دارت في العراق ولبنان وفلسطين وكانت الولايات المتحدة طرفا فيها على أمل أن تفضي إلى إطلاق مخاض شرق أوسط جديد متصالح مع نفسه وهادئ وينعم بسلام دائم مقام على منطق القوة وفرض الأمر الواقع لكن دون جدوى.

فهذا الشرق الأوسط المنشود أبعد ما يكون عن الانبثاق من العراق ولا من لبنان ولا من غزة المدمرة والمهددة في كل لحظة بعودة الحرب، ولا من الضفة الغربية الواقعة في دائرة التهديد الإسرائيلي رغم أنها ليست تحت حكم حماس وتديرها سلطة فلسطينية معترف بها وفقا لاتفاقات واضحة رعاها المجتمع الدولي. وقوبل اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، الذي توسطت فيه إدارة دونالد ترامب، في البداية بتأييد واسع النطاق.

وأعرب الفلسطينيون عن ارتياحهم لإمكانية إنهاء عامين من العنف الوحشي والجوع الذي دمر شعبهم وأرضهم، بينما احتفل الإسرائيليون بإطلاق حماس سراح عدد من الرهائن، وأعربوا عن أملهم في الخروج من عزلتهم الدولية. وأظهرت الحشود في إسرائيل ومصر تقديرا واضحا للرئيس الأميركي ترامب.

ورغم الأجواء الاحتفالية لا تزال الشكوك، بحسب ما ورد في تقرير لمجلة “فورين بوليسي” الأميركية، تحوم حول ما إذا كان لثقة ترامب بأن الاتفاق سيحدث تحولا أوسع في الشرق الأوسط ما يبررها أو ما إذا سيصمد هذا الاتفاق عند اختباره على أرض الواقع في غزة.

ويحدد الاتفاق، في حال تنفيذه بالكامل، مسارا من شأنه أن يعيد الحياة والبنية التحتية والاقتصاد في غزة إلى طبيعتها، ويؤسس لنظام سياسي يتجاوز حماس، ويعالج أيضا المخاوف التي أثارتها دول عربية رئيسية، بينما يرفض بعضا من أكثر مطالب إسرائيل تشددا، مثل طرد الفلسطينيين أو ضم الضفة الغربية. كما يلتزم الاتفاق بتسهيل المساعدات الإنسانية (باستثناء مؤسسة غزة الإنسانية التي لا تحظى بشعبية) وبإعادة إعمار واسعة النطاق، دون الانغماس في رؤى غير واقعية للمشاريع الفاخرة.

وفي حين حقق الاتفاق بالفعل تقدما مؤقتا بوقف القتال، وتأمين إطلاق سراح الرهائن، وتعزيز إجماع دولي نادر لإنهاء الحرب، إلا أنه يفتقر إلى إستراتيجية عملية للتنفيذ الكامل.

ولا تزال الأوضاع الإنسانية في غزة مزرية. وحتى قبل بدء توزيع المساعدات، فرض رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قيودا عليها. ولم تُظهر حماس من جانبها أي إشارة إلى تسليم سلاحها، بل إنها شددت قبضتها واستهدفت منافسيها الذين تدعمهم إسرائيل.

◄ قرارات ترامب غير المتوقعة وغير الخاضعة لرقابة إدارته تجعل من تغيير السياسة الأميركية تجاه تجدد الصراع أمرا محتملا

ويعتمد الاتفاق على افتراضات غامضة حول التعاون الإقليمي، دون التزامات ملموسة أو قرارات من الأمم المتحدة لضمانه. وعلى الرغم من أن نشوب حرب شاملة أخرى يبدو مستبعدا في المستقبل القريب، إلا أن نسخة مخففة من الاتفاق قد تترسخ، حيث يبدو أن جميع الأطراف تدرك أن القوة العسكرية قد بلغت حدودها.

وأثار هجوم نتنياهو على مدينة غزة قلق الكثيرين داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية والجمهور الأوسع. ومن المرجح أن يتمسك الفلسطينيون، المنهكون بعد سنوات من المعاناة، بأي أمل في الفرج. ومع ارتباط مصداقية ترامب الشخصية بالنتيجة، وإرهاق جميع الأطراف، يبدو انهيار مماثل لوقف إطلاق النار قصير الأمد في يناير أقل احتمالا على المدى القريب.

ومع ذلك، لا تزال الشكوك قائمة حول ما إذا كان الاتفاق سيتجاوز مرحلته الأولى لنزع سلاح حماس وتأسيس سلطة حاكمة جديدة، ناهيك عن تحقيق الأهداف الأكثر طموحا التي حدّدت في مراحله اللاحقة. والسؤال الحاسم ليس ما إذا كان الاتفاق سيطبّق بالكامل، بل كيف سيبدو المشهد الإقليمي في حال فشله. إنّ الطريقة التي تتعامل بها إسرائيل وحماس والولايات المتحدة والقوى الإقليمية مع الفترة الانتقالية هي التي ستشكّل ديناميكيات غزة ما بعد الحرب.

وقد يؤدي التفاؤل إلى إحياء جهود التطبيع العربية مع إسرائيل لفترة وجيزة واستعادة الوضع الراهن الهش الذي كان قائما قبل السابع من أكتوبر 2023، ولكن خيبة الأمل المتجددة في غزة أو التحول الإسرائيلي نحو الضم قد يؤديان بسهولة إلى تفتيت النظام الإقليمي الذي يتصوره ترامب وتدعمه الولايات المتحدة.

وتبدأ التحديات بدمار غزة نفسها، الواقع المختزل في فكرة ثانوية تخفيها نشوة وقف إطلاق النار. الدمار يكاد يكون كاملا. فقد شُرّد السكان، وتعرضوا للصدمات، وهلك عدد كبير منهم، مع تأكيد مقتل ما لا يقل عن 67 ألف فلسطيني، ومن المرجح تواجد عدد أكبر تحت الأنقاض. ودُمّرت المدارس والمستشفيات والطرق والمساكن والمرافق والزراعة. الأحياء التي يأمل الناس العودة إليها لم تعد موجودة، وما تبقى منها لا يؤمّن الحياة.

وتتوخى الخطة تدفقا هائلا للمساعدات الإنسانية لمعالجة الأزمة الملحة، لكن هذه المساعدة غير مؤكدة وغير كافية. إن الحصار الإسرائيلي المستمر لعقدين من الزمن على غزة، وعرقلته المتكررة لإيصال المساعدات، حتى في ظل الضغوط الأميركية والدولية، جعل تقديم الإغاثة على نطاق واسع أمرا صعبا.

وتُشكّل ذكرى الرصيف العائم الذي بنته أميركا، والذي كان من المفترض أن يتجاوز نقاط التفتيش الإسرائيلية ولكنه سرعان ما انهار في البحر، تجليا مناسبا لعجز الرئيس الأميركي السابق جو بايدن. وقد خفّض نتنياهو بالفعل كمية المساعدات المسموح بدخولها إلى غزة، مشيرا إلى تأخر عودة رفات الأسرى، وهي خطوة يرجّح أن تتكرر. وحتى لو وصلت مساعدات كبيرة، فلن توفّر سوى إغاثة مؤقتة.

وتتطلب إعادة إعمار غزة أكثر من 50 مليار دولار من تمويل التنمية لمجرد ترميم البنية التحتية الأساسية. وبينما أعربت دول الخليج عن رغبتها في المساهمة، إلا أنها غير راغبة أو غير قادرة على تقديم دعم مالي غير محدد المدة. وغالبا ما تعجز عن الوفاء بالوعود المبالغ فيها التي تأتي مصحوبة بشروط سياسية.

وعلاوة على ذلك ستكون إعادة الإعمار مستحيلة في ظل القيود الإسرائيلية المستمرة على الموانئ والمطارات، حيث تمنع حركة البضائع والأشخاص، وهي سياسات يشير تاريخ إسرائيل إلى أنها ستتمسك بها. كما يزيد إصرار إسرائيل على القضاء على حماس واستبعادها من أي دور مستقبلي في غزة الوضع تعقيدا.

ولم تبد حماس أي استعداد لنزع سلاحها، وهي تعيد فرض سيطرتها بالفعل، مستهدفة الميليشيات الموالية لإسرائيل التي شكلت خلال الصراع. ولا توجد قوة واضحة لفرض نزع السلاح أو الحفاظ على النظام. ومن غير المرجح أن تتسامح إسرائيل مع أي سلطة فلسطينية مسلحة، ولن تكون أي بعثة حفظ سلام دولية أو عربية فعالة دون تعاون حماس الضمني على الأقل.

ويعطي استمرار وجود حماس إسرائيل ذريعة دائمة لتأخير إعادة الإعمار وتقييد المساعدات. ولا يظهر نتنياهو، الذي لم يوافق على وقف إطلاق النار إلا تحت ضغط أميركي ومحلي كبير، أي بوادر التزام طويل الأمد يتجاوز إطلاق سراح الرهائن. ولا تزال حركة المستوطنين اليمينية التي تهيمن على حكومته مصممة علنا على ضم غزة والضفة الغربية، ما يضمن تعرض وقف إطلاق النار لتخريب داخلي مستمر.

◄ حتى في ظل وقف إطلاق النار، تواجه غزة خطر الوقوع في دوامة من العنف، والانهيار الاقتصادي، والحكم غير الفعال، والتمرد المستمر

ويبدو الاتفاق الحالي مسكونا بإخفاقات الجهود الإسرائيلية – الفلسطينية السابقة، ويذكّر بالمنطق المعيب للاحتلال الأميركي للعراق. ومن المرجح أن يقوّض غياب الحكم المستقر أو الأمن أي محاولة لبناء الشرعية في غزة، كما حدث في بغداد قبل عقدين.

وقد يثير نزع سلاح حماس بالقوة فوضى، بينما سيجعل تركها مسيطرة أي إدارة جديدة تعتمد على إرادتها. وقد تقام وصاية دولية مقترحة، لكنها، كما كان الحال مع الإدارة الأميركية الأولى في العراق، لن تمارس في الحقيقة سوى سلطة محدودة ولن تحظى بأي شرعية لدى الفلسطينيين الساعين إلى تقرير مصيرهم، لا إلى العيش تحت إشراف أجنبي.

وحتى في ظل وقف إطلاق النار، تواجه غزة خطر الوقوع في دوامة من العنف، والانهيار الاقتصادي، والحكم غير الفعال، والتمرد المستمر، بعيدا كل البعد عن الدولة الحديثة المزدهرة والمنشودة.

ويعتمد أمل التغلب على هذه التحديات الهائلة إلى حد كبير على التزام ترامب ومشاركته الشخصية، علما وأنه لا يمكن تأكيد هذه النقطة. وتفتقر إدارته إلى القدرة والخبرة اللازمتين للإشراف على عملية معقدة كهذه. ومع إرهاق المسؤولين الرئيسيين، وتفكيك الوكالة الأميركية للتنمية الدولية، وتآكل الخبرة المؤسسية، تبدو الولايات المتحدة غير مستعدة لإدارة طويلة الأجل.

إن قرارات ترامب غير المتوقعة، وغير الخاضعة لرقابة إدارته، تجعل من تغيير السياسة الأميركية تجاه تجدد الصراع أمرا محتملا تماما. ويمكن أن تصرف الاضطرابات السياسية الداخلية انتباه واشنطن عن الوضع بسهولة. وفي غضون ذلك، تأمل إسرائيل أن ينهي وقف إطلاق النار عزلتها المتزايدة ويخفف من حدة الغضب إزاء تدمير غزة. لكن هذه الآمال تبقى في غير محلها.

فالتحرك الحقيقي نحو التعايش السلمي مع الفلسطينيين وحده كفيل بتحقيق ذلك، ولا توجد أي جهود من هذا القبيل قيد التنفيذ. لقد غيّر الدمار في غزة بالفعل النظرة العالمية لإسرائيل بعمق كما غيّرت حرب العراق صورة الولايات المتحدة. ولن تلغى هذه التغييرات بهدنة قصيرة، وستستمر المطالبات بالعدالة والمساءلة عن جرائم الحرب طويلا بعد توقف القتال. ولا يزال التوصل إلى الاتفاق أفضل من عدم تحقيقه.

وكان لا بد من إنهاء الحرب الكارثية، وقد حقق ترامب ما عجز عنه بايدن. ومع ذلك، فإن ضمان استمرار وقف إطلاق النار وتحويل لحظة الاحتفال هذه إلى فجر دائم لـ”شرق أوسط جديد” يتطلب تركيزا مستمرا ودروسا مستفادة من إخفاقات الماضي.

ويقدم التاريخ دروسا من تجارب سابقة: فغزو العراق وقصف إسرائيل للبنان عام 2006، اللذان وُصفا يوما ما بأنهما “مخاض شرق أوسط جديد،” لم يحدثا أي تحول دائم، ولا يوجد ما يدعو إلى توقع نتيجة مختلفة وسط أنقاض غزة المشتعلة اليوم.

3