"معنى مجازي".. رحلة شرقية – غربية مضيئة عبر التجريد الفلسفي
لا يسعى الفنانون التشكيليون الحروفيون إلى قول كلام محدد أو محدود، بل يفتحون حركات الحروف على المطلق، ويضخون فيها طاقة شعرية يتجاور فيها المعنى والإحساس والفكر، وتصل أحيانا إلى مراتب صوفية من الوجد والحلول الكوني. هكذا هي تجربة الفنان التشكيلي الحروفي التونسي لسعد مطوي، الذي يقدم معرضا جديدا لأعماله في باريس.
“معنى مجازي (sens figuré)” هو عنوان المعرض الذي افتتحه الخطّاط والحروفي التشكيلي التونسي المقيم في فرنسا لسعد مطوي في السادس والعشرين من سبتمبر الحالي، ويستمر إلى الخامس والعشرين من أكتوبر القادم بجاليري “أيكار بسان كلود (Icare Saint-cloud)” في باريس، حيث يعرض 14 لوحة حروفية أصليّة وقرابة 15 عمل طباعة ليثوغرافي.
يبتكر لسعد مطوي أعماله باستمرارية فلسفته البصرية التي لا تقف عند تجريب واحد بل تحتمل أكثر وأكثر في السعي المرتحل بين فضاءات الحنين والأمكنة والفنون والثقافات بين اتساع الصمت، لغته التي بها يصقل مفاهيمه، وبين صخب اللون والموسيقى وقفزه من حدود أشكاله وقيود أحجامه التي تجعله عاشقا للسفر والاكتشافات.
من الخط إلى الحرف
◙ لسعد مطوي يعتبر تجربته رحلة دائمة وسفرا في النصوص والفنون والثقافات وحضورا مختلفا بين الأمكنة والتجريب بفلسفاته“أرى بأنني رحالة” بهذا التمهيد يعتبر مطوي تجربته رحلة دائمة وسفرا في النصوص والفنون والثقافات وحضورا مختلفا بين الأمكنة والتجريب بفلسفاته التي تختلف لتتشابه وتتناقض لتبدع، ربما انعكاسا لطابعه الصحراوي الذي قدم منه وانتمى إلى فضاءاته بتأملات التنوع الذي عاشه بين جغرافيا قابس (جنوب شرق تونس) التي حملت البحر إلى الصحراء وبعثرت فوضاه بواحاتها العنيدة هناك، عندما لامس الحرف بالجمال في فرح الفضاء وشجنه الحسيّ بين المعنى ومجازه.
من خلال هذا المعنى الذي استنهضه ليقوم بمراقصات حسيّة ذهنية بين الروح والذاكرة، الجذور والانتماء إلى المنبت الأرضي بالحرف وحده دون وساطة المعنى، الحرف الذي يخلق كيانا ثابتا وحضورا أساسيا دون أي إضافات داعمة، أما اللون فيتقرّب من الشكل الحروفي والتجهيز للفضاء كوحي من بوح المجاز، يبتكر الفنان كثافة واندفاعا جماليا يفرض البحث والدهشة والانبعاث مجدّدا مع الحرف من دوائر الخلق الأولى ومبعث الحضور الأول في رحم الأرض.
في رؤية لسعد مطوي وحده الحرف سيّد سائد يواجه معناه وحضوره في اللوحة التجريدية الكبرى التي ابتدعها الخالق في صحاري الامتداد تجريديا وحسيّا، تلك التي أبصرها طفلا واكتشف مفاتيحها البصرية الجمالية بحكمة النور في الفن وتحديدا في الخط العربي، الذي تلوّن بحركة انبعاثه المقدّس، ليعيد به تكثيف الروح في معناها المتصاعد بالاحتواء بالنور بالأمكنة المتناقضة التي ملأت تفاصيله وسافر منها إلى ذاته حيث الصمت يسير بتجليات المعنى.
“العمل الفني بين الكتابة والرسم بين القراءة والإبصار هو رحلة ممتعة قادرة على تطويع حواسنا لننسى هذا الرمادي اليومي الذي يحيطنا، لأن لسعد رجل صحراوي مُضيء استطاع أن يُبصر كتاباتي بقلبه في نصوص الرواية التي تحمل شخوصها وتختفي عبرهم بين الحرف والقصيدة”. هذا ما قاله ياسمينة خضراء عن الفنان التونسي.
وأنت تحاور مطوي تقع على شخصيّة مثقّفة ومسافر تستهويه التفاصيل وتحكم عليه بالانتماء إلى الجمال. لا يوفّر على نفسه جهد التقاط الصور وتكثيفها في مهد حواسّه وفي تفاصيل تفكيكها ذهنيا، ليستفرد بها في عوالمه ويراقصها بكل ما يحمل من حضور، في تداخل حميم وحميميّة متأملة في كون مكتمل التقويم والقوام.
هنا لا يختلف الحرف عن الحروفي، ولا الخطاط عن الفنان حيث لا تنفلت الحركة عن خطّاطها، ولا التشكيل عن مبتكره، ولا الروح عن الإنسان في مساراته البحثية التي دمجت الحرف العربي مع اللاتيني والأمازيغي مع ثقافات آسيا، ولا مع النقوش الكهفية للإنسان الأول ودهشة الحرف المسموع في صور التواصل البدائية.
تلك الرؤى التي سافر بها ومعها من “قابس تونس إلى نانت فرنسا”، وبينهما كل الأمكنة التي ارتحل عبرها وكل الملامح التي عبرت جسد حرفه في لوحاته ومعارضه، فقد اشتغل على القصيدة والكتاب على الخواطر والتأملات.
حمل مطوي المحبة في سكون أدب جبران خليل جبران وعبر مع ياسمينة خضراء في سكون الصحراء وشدّ أجنحة الحرف التارقي في عبور التكوين الحسي العميق لحرف تينفيناغ عندما التقى مع محمدين خواد، تاركا في تفاصيله فواصل الأثر ونقاط الاقتفاء لأثره على رمال الأخيلة التي راقص بها حروفه، واستقرأ منها الضوء. لامس التيه المشتهى نحو الثبات، وحمل معها قوافل الحنين وشغف البحث عن واحات الاستقرار في طبيعة الجمال، التي علّمته كيف يرتّبها أبجدية بصرية بين السماء والأرض.
تلك المساحات التي انطلق فيها متشبّثا بحكمة والده الذي خلق فيه تماس المعنى المجازي بالصورة لفهم الفن والجمال، كما يعبّر “كان والدي يقول لي إذا أردت أن تصبح فنانا فأبصر الطبيعة ثم تعمّق في المرأة”. هذه الحكمة التي حمل مجازها بين تفاصيل الإحساس الأعمق بالجماليات كفلسفة ابتكار تتساءل عن مصطلحات الوجود لماذا الطبيعة ولماذا المرأة؟
إنها تساؤلات واضحة لرؤية عميقة تحاول السفر لما بعد الصورة نحو مجازها نحو التجريد نحو التحرّر من سواد الأسود نحو النور من دوائر السكون الأول في رحم البدايات وصولا إلى رحم المعرفة في أرض تحمل الإنسان نحو الانعتاق، نحو التماهي، مراحل ابتكارية إبداعية تتصل في انفصالها لتستحدث كيانها الآخر.
في تشكيلاته تراقص الجسد الحركة والحرف بتناغم مع ذلك الحوار البصري بين المعنى والمجاز، انطلق معها في كل بحث يتفرّد بكيانه بين المحبة وتفاصيل الغوص في قصائد الحياة والعشق والتصوّف والحضور الأساسي لوجود منشود في ملاحم الصمت والبقاء على إيقاع الصراع والتصادم والصمود والانبعاث حد الثمالة، التي تردّدت صوتا في حبره المحتوي لحرفه الناضج في شعرية تترنّح بنشوة، تخرج من القلب بعمق الحواس الطافحة بالحياة والمحبة وبتناقضات الوجود بعناد البقاء في حواسه الذهنية.
عبور نحو الاكتمال
في تجريبه الحروفي وفكرته التشكيلية يقدّم مطوي هندسة لحرف مُبهر الضوء في حسيّات بول كلي مع شرق مدهش التفاصيل كثيف الألوان، وغرب تُحيك الدهشة تفاصيل المعنى الآخر لصوره، حيث تتداخل معه رؤى التجريد في رؤى كاندنسكي وهندسة الفراغ بالخطوط وبالأشكال وكياناتها، وسريالية خوان ميرو وهو يبعثر أحلامه بعلاماته التي تشاكس رموزه الشعرية، لتحمل أكثر من معنى في معانيها بين الحكمة وهلوساتها، وبين امتلاك العلامة الحكيمة في الإرث البصري الشرقي الأمازيغي الأفريقي المنبعث من الحرف العربي والزخارف الشرقية، وآثار الصحراء وتأثيرها على الجغرافيا.
هي رؤية الحياة بين العطش والارتواء، كما تحدي البقاء بين الحضور والسراب، وملامح العلامات في آثار الجسد الناطق في تلك الوشوم البربرية، والأنسجة الملونة والرموز التي تحيكها القصص الشعبية في رحلة بصرية وسفر من الذات وعبرها نحو فضاءات تحتضن فنا يجمع بين الإيماءة والنفس والروح.
الصحراء وجه القساوة والجفاف والقحط والعطش، التعب والموت والبعد والانعزال، الصحراء التي تفرض صورتها المعجزة كيان صورتها الصلبة بين المعنى والمجاز ترسمها على فوضى كثبانها تنحتها ترتّب بشموخ جبالها وتزرع الأمان بين أرجاء الموت الفسيحة التي تحدق بالصحراوي من كل جانب.
من هذه الطبيعة القاسية استمد الصحراوي طبيعته وصلابته واتساع فكره ونظرته البعيدة إلى التفاصيل التي تحيطه وتعتبر سر سعادته بكل ذلك الوهب المتناقض بين الوفرة والندرة، العطش والارتواء، الخصب والقحط، لأن الطبيعة منحته سر وجوده عندما علّمته كيف يواجه عنف الطبيعة بالطبيعة نفسها، لأن الصحراء عرفت كيف تجذبه إليها ولأنها توافقت وتناقضت، وعشقت العنيد المغامر في روحه، وهي الطقوس الحسيّة التي ارتسم فيها مطوي من حروفه وأسّس معانيه من خلالها، فبين المعنى والمجاز بدايات التكوين، وبين التفاعل والانجذاب منتهى التوافق البصري واكتمال الصورة من وحي مجازها.
البحث في الخط عند لسعد مطوي تطوّر تجريبي وبحث فلسفي، فهو يقوم بتشخيص الحرف باقتفاء الأثر في ذرات التواصل الوجداني بين الحرف والفكرة والحضور والاندماج، فهو من خلال كيان ذلك الحرف يعيد اكتشاف النقطة التي منها تمضي التشكيلات البصرية، فكل فعل حروفي يكمن في تماس التشكل الكوني للذات الكاملة في تلك المساحات الثرية من المعاني في اللغة العربية وفي تجريد روحها الجمالية انطلاقا من معانيها.
يجسّد مطوي مفاهيمه الفلسفية مثل “الفكر” و”المنطق” و”الجماليات” في رؤى فلاسفة مثل نيتشه وشوبنهاور وهايدغر وكيتارو نيشيدا، قبل أن يُطلق العنان لريشته وأقلامه في تفكيك معانيها ومجازاتها، فقد صاغ رحلة شرقية غربية مضيئة عبر كلمات ومفاهيم في تكاثف الفلسفة، ليشارك بها الصورة الخطية بين الفكرة والكلمة ويختبر بها صورة التعبير أو المعنى، احتواها بألوانه التي خلقت بصمته الحروفية التشكيلية ومعاني الكلمات والمفاهيم على القماش، ليس حرفيًا، بل مجازيًا.
في تجريبه الحروفي والتشكيلي، الذي يتمهّل فيه مطوي ابتكار الأسلوب والحسيّة وجدل الأفكار الفلسفية وتناقضات الأزمنة والأمكنة ومنبع البعث أو البحث الفكري، يتحاور نشيدا مع الفلسفة الغربية ويكتب وقعها الصوفي في تصوراته البسيطة العميقة الجمالية.
يحدّد الفنان مبعث اللاشيء المطلق باعتباره التماس الحسي والفكري بين الذات والمكان، بين الإرث الفلسفي الآسوي الشرقي والفكر الغربي الحديث المنطلق في تفصيل الإنساني بين المادي والجوهري والوجودي في الاتجاهات التي تخلق الثنائيات الميتافيزيقية في تكثيف العلاقة بين المنطق والمطلق، بين التماهي والاختلاف في حالات الوعي الأولية، التي تستعيد نور المعرفة وهي تخلق التمييز بين الأنا والآخر وبين المكان في تصنيفاته الوجودية.
يلتقي مطوي من خلال تجريبه مع تلك الثنائيات التي تكسر حواجز الاختلاف بالاهتمام بتلك الذات التي تتجاوز اختلافها، تميّز انبعاثها، تطلق نورها الذي لا يكتفي لها بالمُعطى، بل يخلق لها التفرّد، فالإنسان كيان موجود فاعل لا يعيش كمراقب ساذج للخارجي بل هو محرّك فاعل مندمج، وكذلك الحرف في تكوينه الحسي، بحث باعث لوجود المعنى، ذلك الذي يمكن أن يولد من قلب الفراغ، فيحمل صورا واضحة ومجازا مُدركا.