"حميمية التأمل".. حوارية بين الظل واللون تقودها موسيقى الألوان
يتجاوز اللون في اللوحة حالات الشعور والانفعال في درجاتها السطحية ليصبح فلسفة كاملة، لكنها وهي تلاحق الأفكار تخلق منها مشاعر متوهجة، وتحولها إلى تجارب حسية. وهكذا هي لوحات الفنان التونسي وهيب زناد.
“حميمية التأمل” عنوان معرض التشكيلي التونسي وهيب زناد، الذي يقدّمه في جاليري أرشيفآرت (Archivart) بتونس على امتداد شهر، إلى غاية السابع والعشرين من أكتوبر الجاري. لأن التأمل طبيعة الغوص في الألوان الداخلية للذات الإنسانية، ولأنه اختيار الروح ليسكن صمتها الصاخب بالوحي الدافع للبوح، اختار وهيب زناد السفر بنا إلى ذاته الحسية المتناغمة مع موسيقاها بفرح مشاعر مكّنته من اصطياد ذبذبات ذلك الفعل المباهجي في وحي النور.
حقول الألوان
يرشح زناد بألوانه في طبيعة تشدّ عين المتلقي وهو يتابع اللوحات لتخطف بصيرة روحه نحو لذّة الانتماء لحقول اللون، تلك التي تدفعه بمحبة إليها بشعاع ضوء له إيقاع وصوت، موسيقى رسم منافذها تكتشفها الحواس.
تلك الحميمية التي لا تعرف سكنا إلا بالتفاصيل ولا تسكن إلا بالتأمل في غموض يتفجّر منها علامات لميلوديا ساحرة ورومنسية كثيفة الجمال متداخلة المعرفة متناغمة الحوار الثقافي الذي يستعيد الروح نحو فضاءاتها الفسيحة بالمرح الطفولي والنضج الفني والابتكار الجمالي، ذلك الذي صُقل عليه وهيب منذ طفولته.
التجربة التي يعرضها جاليري أرشيف آرت قد تحيلك على أزمنة الحداثة في التجريب التشكيلي ومدارس الفن البديعة في ابتكاراتها، ولكنها تتنوّع في جمالها الحسيّ وتمضي عبر جسورها الطبيعية الملونة بين مانييه ومونيه وفان غوخ وغوغان وسيزان ووحي الاستشراق الفني بجمال التقاطه للضوء الدافئ الغني بسماء تونس، التي تتداخل فيها الحميمية مع الألوان الزاهية للطبيعة التي تتفوّق على الخيالي بالشعوري.
كل هذه التداخلات لا تلغي بصمة الإبداع في تجريب الفلسفة البصرية التي يعكسها وهيب زناد في تجريبه البصري العنيد، لأنها ترتّبه على مهل وثقة واندفاع وبحث وتقمّص للعين التي ترى لتبصر ولتشعر وتنتشي.
يقول الفنان “أعمالي تجريبية في عمقها الحسيّ ترتكز على التبادل بين الفنون بين الألوان بين التعابير التي تتكاثف وتخفت وتظهر في الألوان، هي ألوان أترك لها حريّة الانبعاث لأني لا أحب أن أقيّد نفسي بمدرسة أو بأسلوب لأني أحمل جوهر الفنون البصرية التي تعلّمت منها كيف أواجه حدود الاتجاهات المفروضة، لأني أقدّمها لكل متذوّق للفن مهما كان مستوى انتمائه لذائقته يستقبلها بتبادل وتواصل، فاللوحة مثل الموسيقى انبعاث الشعور ولغة الجمال والإحساس نشترك في تذوقها نختلف في تأملها الذاتي الحميم.”
رحلة الشرق والغرب
لقد ساهم تكوينه الطفولي المتشبّع بالثقافة بالفكر بالكتب بالبحث بالاندماج مع بيئته وأسفاره وتنقلاته مع أسرته بين أوروبا وإفريقيا عبر تونس في تعميق التأمل وخلق صلة جمالية بين ذاكرته وخياله، حاكت له خيوط الفن بالفن بالعمارة بالهندسة بالزخرف بالحضارة بالإنسان بإيقاع فلسفة بصرية تحيل الجغرافيا إلى معجزة ملوّنة، تلتقي فيها الشمس بالثلج، ويلتقي فيها الضوء بالعتمة، وتحتوي تفاصيلها تنافر الاندماج وتداخل الثنائية الحسية باختلافات مدهشة عميقة، تتلألأ داخل عوالم مُلونة وجمال مشترك.
تشبّع بفنون إفريقيا وألوانها بملامح الشعوب بتخصّص والدته في علم الاجتماع وتمهيدها له ثنايا الفنون التشكيلية بالتجريب بألوان زيتية، كل تلك التأملات التي سردها زناد بشغف عبرت به إلى عمق أصيل في إنسان متفرّد بتجربته اليافعة وحكمته العنيدة في إثبات فلسفته البصرية البسيطة بفكرة الجمال القادر على خلق لغة تعبير مشتركة بين كل الشعوب وكل الفئات وكل المستويات، بلا تعقيد أو شرح، بلا تكلّف أو اختلاف، ألفة متناغمة تتوازن وتتبادل وجهات المحبة بالفن بالجمال.
◙ الفنان يرشح بألوانه في طبيعة تشدّ عين المتلقي وهو يتابع اللوحات لتخطف بصيرته نحو لذّة الانتماء لحقول اللون
يحكي وهيب زناد ذاته في بوح روحه الباحثة عن الجمال في سر الإحساس به حد الانتشاء المُعدي في تمازجاته من الفنان إلى المتلقي، وحده الجمال منطق البقاء والخلود في ألحانه الملوّنة، فكل ما يقدّمه زناد ينطبق على ما فسّره رولان بارت في مفهوم اللذة من خلال النص والقراءة “لا أقرأ لأفهم، بل لأشعر”، وهو ما يقيسه على التأمل في اللوحة فتجربة التلقي بانسجام وجمال وتأمل هي تصوّر حسيّ قابل للتماهي للتناغم الحسيّ.
حملت الخصوصية الجغرافية والثقافية التي تشبّع بها وهيب زناد الكثير من التفاصيل في تشكيل اللون، حيث خلق علاقة فريدة بين الضوء والسطوع والإشعاع المشتعل بالدفء في تلك المشاهد، وخلق بينها حوارات حميمية وتأمل تكامل مع ذلك الفضاء الكثيف.
بين الظل واللون والضوء تمكّن من تثبيت حوارية مختلفة انعكست في تناغماتها على المتلقي بموسيقى حسيّة، أبرزت أبعاد جمالية وهوية مرنة التمازج الثقافي ثابت الحضور، فبعيدا عن كليشيهات التصنيف التي قد يتصف بها، استطاع أن ينتهج مسارا تعبيريا مختلفا وهيكلة بنّاءة للإيقاع الحسيّ الذي جسّده في لوحاته حمل شعريّة وشاعريّة.
فهو لا يقلّد تفصيلا من تفاصيل الأساليب التي قد يكون تأثّر بها مثل الانطباعية أو الوحشية وغيرها ولكنه انبعث مع ألوانه في تصوراته الخيالية الشعرية التي تسمو بالذوق بالرقي من خلال الألوان النابضة الجريئة التي احتوت عواطف الطبيعة بالتأمل في مواسم التمازج فيها.