ليبيا من ثورة الكرامة… إلى دولة الكرامة

من ثورة الكرامة إلى دولة الكرامة تتجسد العلاقة التاريخية بين الشعب والجيش في اندماج وطني غير مسبوق يقود ليبيا نحو الوحدة والحرية والكرامة والمؤسسات المستقلة.
الأربعاء 2025/10/08
رسم ملامح المستقبل وفق رؤية ليبية – ليبية

يدرك المشير حفتر أن الشعب الليبي يرفض بقوة التدخلات الخارجية، ولا يقبل الخضوع لوصاية أيٍّ كان. إنه شعب حر وسيبقى كذلك، وحريته تأبى الانتقاص من سيادته وسيادة دولته التي قاومت كثيرًا من أجل أن يكون قرارها الوطني مستقلًا، وإرادة شعبها فوق كل الإرادات.

حتى خارطة الطريق التي طرحتها رئيسة البعثة الأممية، هانا تيتيه، أمام مجلس الأمن في 21 آب – أغسطس القادم، ليست في النهاية سوى انعكاس للتجاذبات الإقليمية والدولية ولمصالح الدول المتنافسة على بسط نفوذها، ولو من خلال موطئ قدم في الجغرافيا الليبية. لذلك اجتمع المشير مع مشايخ وأعيان وحكماء القبائل في المنطقتين الشرقية والجنوبية الشرقية، ليؤكد أولًا أن “هذا اللقاء سيكون بداية التحول من الارتباك والتشرذم والانقسام والصراع وانعدام الثقة إلى السلام والاستقرار الدائمين لدولة ليبيا الواحدة”، وليشير ثانيًا إلى أن “هذا اللقاء هو الخطوة الأولى لقطع المشوار والمبادرة الوطنية الجريئة التي تدفع الليبيين لرسم خارطة طريق لبناء دولتهم بأنفسهم”. بمعنى آخر، يرى القائد العام، برؤيته السياسية وتجربته الميدانية، أن الشعب الليبي، من خلال قياداته الاجتماعية، قادر على حل مشاكله بنفسه ووضع خارطة طريق تنسجم مع خياراته المبدئية وخصوصياته الثقافية وقراءته للواقع واستشرافه للمستقبل. أعلنها بصوت عالٍ: “لا يمكن لخارطة نُسجت خيوطها وراء الحدود أن تبني دولة حرة كاملة السيادة”.

ينطلق المشير في ذلك من قصة الثورة الاستثنائية التي أطلق شرارتها الأولى في 16 أيار – مايو 2014، وهي ثورة الكرامة التي حققت إنجازًا غير مسبوق على الأرض، فقد نجحت في توحيد الليبيين حول مبادئها الوطنية، وفي تحقيق المصالحة الوطنية حول قيم الانتماء إلى ليبيا الوطن والهوية والأسرة الكبيرة، وفي القضاء على الجماعات الإرهابية والتصدي لعصابات التكفير والتخريب والتبعية المفضوحة للخارج، وفي بناء مؤسسة عسكرية ذات حرفية عالية وتراتبية وظيفية مشهود لها ومرجعيات أكاديمية مقدّرة دوليًا، وفي تأمين الحدود وحفظ المقدرات وتحصين منابع الثروة من أطماع شبكات النهب والسلب والاستغلال، سواء كانت تابعة لدول أو لأسر أو لأشخاص، وفي استعادة سيادة الدولة وتوفير الظروف الملائمة لتشكيل نظام سياسي متجاوب مع طبيعة المجتمع وإدارة الشأن العام برؤية متقدمة وقراءة عميقة لحاجيات الوطن والمواطن، وفي مظاهر التنمية وإعادة الإعمار وتلك المنجزات المذهلة التي يمكن للزائر أن يلاحظها في بنغازي أو درنة أو سرت أو سبها أو مرزق أو أي مدينة أو قرية أخرى، والتي ما كان لها أن تتحقق لولا إرادة سياسية صلبة متداخلة مع وعي استراتيجي عميق ومعرفة واسعة بخصوصيات المجتمع وبتطلعات الشارع.

◄ لا يمكن لخارطة نُسجت خيوطها وراء الحدود أن تبني دولة حرة كاملة السيادة فالشعب الليبي وحده قادر على رسم مستقبله وفق إرادته الوطنية وخصوصياته الثقافية

كان المشير حفتر يشعر بأن الوطن في أمسّ الحاجة إلى الاجتماع الذي عقده مع القيادات الاجتماعية وزعماء القبائل، والذي أكد على ضرورة ألا يكون تقليديًا ينتهي بالمصافحة، بل يجب أن يكون له ما بعده. قال بوضوح: “إما أن نعيش حياة العزة والسيادة والكرامة، أو المذلة والتبعية والوصاية”. كانت هناك رسالة بليغة أراد لها أن تصل إلى المراقبين في الداخل والخارج. عندما أطلق المشير على ثورة السادس عشر من أيار – مايو اسم “ثورة الكرامة”، كان ينطلق من تاريخ طويل من المقاومة والممانعة ضد الاحتلالين العثماني والإيطالي، وضد الديكتاتورية والفساد والإرهاب. كان يستذكر تاريخ آبائه وأجداده من الفرجان وفي برقة وعموم ليبيا. يكفي التذكير بوالده بلقاسم، الذي كان له دور بارز في معارك الجهاد ضد المحتلين الفاشيست الطليان، ودور اجتماعي رائد في جمع شمل الليبيين وقيادة جهود المصالحة بين العوائل والقبائل.

عندما أكد المشير أن “على المجتمع بكل شرائحه ومؤسساته أن يتحمّل المسؤولية التاريخية في إيجاد صيغة نموذجية لإخراج الوطن من هذه الدوامة”، كان يضع بادئة خير ونقطة انطلاق نحو عمل مجتمعي منظم، وكان يضع الحجر الأساس لمرحلة استثنائية من تاريخ البلاد، شعارها الأقرب إلى هدفها هو “من ثورة الكرامة… إلى دولة الكرامة”. كانت ثورة الكرامة نموذجًا متميزًا للعلاقة بين الشعب والقوات المسلحة. انضم الوطنيون الليبيون من أبناء القبائل إلى وحدات الجيش متطوعين في سبيل الحرية، مندفعين لمواجهة الجماعات الإرهابية، مضحين بالنفس والنفيس، فكان ذلك الاندماج المدهش الذي غيّر وجه التاريخ، وصنع تلك العلاقة الراسخة والعميقة بين الجماهير الشعبية والمؤسسة العسكرية وقيادتها العامة ممثلة في المشير خليفة حفتر، الذي يتجه اليوم إلى الانتقال بالبلاد من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة، بحيث “يجب الوصول إلى ليبيا موحدة، مبنية على الحرية والكرامة، والقانون والمؤسسات”، وفق رؤيته.

إن أهم ما يمكن التوقف عنده بعد اجتماع المشير مع القيادات الاجتماعية وأعيان ووجهاء القبائل، هو ذلك الإجماع الحاصل حول أهمية الخطوات التي خطتها القيادة العامة في سياق رؤية 2030، والاتفاق المسجل على الانتقال من ثورة الكرامة إلى دولة الكرامة ضمن مشروع وطني مكتمل، بنظام سياسي يتفاعل إيجابيًا مع خصوصيات المجتمع الليبي، الذي يرى في المشير حفتر زعيمًا سياسيًا حكيمًا، بالإضافة إلى قيادته العسكرية الموفقة والمنتصرة، ويضع بين يديه قرار تحديد ملامح المستقبل، بما يضمن الأمن والاستقرار، ويحقق التنمية والازدهار، ويطوي صفحة التشرذم والانقسام.

سيبقى خطاب الثالث من تشرين الأول – أكتوبر 2025، الذي ألقاه المشير أمام مشايخ وأعيان ووجهاء القبائل في شرق وجنوب البلاد، نصًا مرجعيًا ليس فقط بقراءته العميقة للواقع واستذكاره لمسارات ثورة الكرامة، وإنما في رسم ملامح المستقبل وفق رؤية ليبية/ليبية يجتمع حولها الليبيون في سياق خارطة طريق وطنية، لا تُقصى إلا من أقصى نفسه أو اختار الإرهاب منهجًا، والتطرف أسلوبًا، والخيانة اتجاهًا، والتبعية للأجنبي منطلقًا لأهدافه ومصالحه.

7