في الدبلوماسية الفائضة عن الحاجة..

الشعوب التي بذلت الغالي والنفيس من أجل الحرية لا يمكن أن تُختصر قصصها في بيانات بروتوكولية ولقاءات رمزية بل يجب أن تُترجم تلك الجهود إلى سياسات ملموسة.
الاثنين 2025/10/13
بيانات بروتوكولية ولقاءات رمزية

في العقود الأخيرة، تحوّلت الدبلوماسية من أداة فاعلة لحماية المصالح الوطنية إلى ميدان مزدحم بالتنافس الشكلي والتمثيل المفرط. باتت بعض الدول تتباهى بعدد بعثاتها وسفرائها أكثر مما تفخر بإنجازاتهم أو بمدى انعكاس عملهم على رفاه شعوبهم، ما يجعل ظاهرة “الدبلوماسية الفائضة عن الحاجة” ليست مجرد هدر مالي أو إداري، بل عبئًا سياسيًا ومعنويًا يضعف جوهر العمل الوطني ويقلل من مكانة الشعوب وحقوقها التاريخية.

الدبلوماسية في أصلها وُجدت لتكون أداة للحوار وحماية السيادة الوطنية، لكن المبالغة فيها — سواء من حيث عدد البعثات أو المناصب — تجعلها في بعض الأحيان أقرب إلى شبكة محاصصة أو واجهة بروتوكولية فارغة. وفقًا لتقرير صادر عن مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي (CFR)، فإن تضخّم البعثات الدبلوماسية في العالم لا ينعكس بالضرورة على قوة الدولة أو حضورها، بل قد يشير إلى خلل في الأولويات وغياب التقييم العملي لنتائج السياسات الخارجية (CFR, “Diplomacy and the Global Order”, 2023). كما تُظهر دراسة لجامعة كامبريدج (2022) أن فرط النشاط الدبلوماسي يمكن أن يؤدي إلى تشويش السياسة الخارجية وتداخل الصلاحيات وفقدان البوصلة الإستراتيجية، خصوصًا عندما تتحول اللقاءات والمؤتمرات إلى غاية بحد ذاتها بدل أن تكون وسيلة لتحقيق أهداف ملموسة للشعوب.

هذا التضخم في الدبلوماسية لا يقتصر أثره على الأداء الرسمي فحسب، بل يمتد ليؤثر على نضال الشعوب وحقوقها التاريخية. فعندما تتضخم البيروقراطية الدبلوماسية على حساب القيم والمبادئ، تقلّص من إرث النضال الوطني وتضعف حضور الشعب الأخلاقي في المحافل الدولية. فالدبلوماسية التي يفترض أن تكون امتدادًا للنضال من أجل الحرية والعدالة تتحول أحيانًا إلى لغة تبريرية تخفي الإخفاقات الداخلية تحت غطاء “العلاقات الودية”، بينما تمحو المبالغة في لغة التوافق على حساب الحقوق ملامح العدالة التاريخية وتضعف الأصوات التي طالما طالبت بالكرامة والسيادة. وقد أشارت الباحثة مارغريت كيلي في مجلة Foreign Affairs (عدد شباط – فبراير 2024) إلى أن “الدبلوماسية المفرطة أصبحت أحيانًا وسيلة لتجميل الفشل السياسي الداخلي عبر خطاب مكرر يفتقر إلى جوهر التنفيذ”، معتبرة أن الشعوب هي الخاسر الأكبر حين تُستبدل المواقف بالمجاملات والبيانات الدافئة.

عندما تُعاد الأخلاق والقيم والفعالية إلى قلب العمل الدبلوماسي، تتحول السفارات والممثليات إلى منصات حقيقية للحوار، وتعكس الدبلوماسية صورة الأمة بعزمها وكرامتها، بدل أن تصبح عبئًا على تاريخها وحقوق شعبها

وتكمن خطورة هذه الدبلوماسية الزائدة أيضًا في انفصالها عن الواقع الشعبي، إذ يتحول بعض الدبلوماسيين إلى موظفين في لعبة توازنات لا علاقة لها بالمصالح الوطنية. وقد حذّر الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في خطاب عام 2005 من أن “الدبلوماسية إذا فقدت جذورها الأخلاقية تحولت إلى شكل من أشكال النفاق الدولي.” وفي ظل هذه الممارسات، لا تضر الدبلوماسية المفرطة بالسياسة فقط، بل تُسهم في تآكل الثقة العامة. فالشعوب التي ترى ممثليها يجوبون العواصم دون أثر ملموس تُدرك أن “الكلمة الجميلة” لم تعد تكفي حين تكون العدالة غائبة والمصالح مهدورة.

لذلك، ليست الدعوة إلى تقليص الدبلوماسية نكوصًا عن الانفتاح، بل مطالبة بترشيدها لتحقيق التوازن بين الحضور الدولي واحتياجات الشعب الداخلي. فالدبلوماسية الناجحة لا تُقاس بعدد السفارات أو المؤتمرات، بل بقدرتها على تحقيق نتائج واقعية تصب في صالح المواطن. وكما تؤكد دراسة معهد الدراسات الإستراتيجية في جنيف (2023)، فإن “الدبلوماسية الحديثة الناجحة هي التي توازن بين الكفاءة والتواضع، وبين حضور الدولة الخارجي واحتياجاتها الداخلية.” الشعوب التي دفعت ثمن نضالها وحرّيتها لا تستحق أن تُستبدل مكاسبها التاريخية بخطابات مجاملة أو تحالفات ظرفية، فالدبلوماسية إن لم تكن امتدادًا لإرادة الناس، فإنها تفقد معناها وتتحول إلى عبء يُثقل ذاكرة الأمم بدل أن يخلّد نضالها.

إن التحدي الحقيقي اليوم ليس في زيادة عدد السفارات أو التوقيع على الاتفاقيات الكبرى، بل في جعل الدبلوماسية أداة فعالة لصالح الإنسان والشعب. دبلوماسية القرن الحادي والعشرين يجب أن توازن بين القوة والعدالة، بين المصلحة الوطنية وحقوق الشعوب، وأن تظل انعكاسًا حقيقيًا لتضحيات الأجيال السابقة. فالشعوب التي بذلت الغالي والنفيس من أجل الحرية والسيادة لا يمكن أن تُختصر قصصها في بيانات بروتوكولية أو لقاءات رمزية، بل يجب أن تُترجم تلك الجهود إلى سياسات ملموسة تحقق العدالة والرفاهية.

عندما تُعاد الأخلاق والقيم والفعالية إلى قلب العمل الدبلوماسي، تتحول السفارات والممثليات إلى منصات حقيقية للحوار، وتعكس الدبلوماسية صورة الأمة بعزمها وكرامتها، بدل أن تصبح عبئًا على تاريخها وحقوق شعبها. عندها فقط يمكن القول إن الدبلوماسية حققت رسالتها الأسمى: خدمة الإنسان والحفاظ على كرامة الشعوب، لا مجرد المظاهر والبروتوكولات.

6