غياب الدولة الفلسطينية يُبقي إسرائيل في حالة حرب أبدية

رفض التسوية يضع تل أبيب في مأزق داخلي وخارجي.
الجمعة 2025/09/05
هامش المناورة يضيق

غياب الدولة الفلسطينية لم يعد مجرد فشل دبلوماسي، بل خطر إستراتيجي يهدد أمن إسرائيل، وعلاقاتها الدولية. وبين تغيّر المشهد السياسي الإسرائيلي، وتزايد المستوطنات، وتراجع فرص حل الدولتين، يعني استمرار الوضع الحالي أن إسرائيل ستبقى في حالة حرب إلى الأبد.

واشنطن - بعد مرور أكثر من نصف قرن على حرب عام1967 العربية – الإسرائيلية وصدور قرار مجلس الأمن الذي أرسى مبدأ انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في الحرب مقابل السلام والأمن، لم يحقق الإسرائيليون والفلسطينيون أي تقدم يذكر، نحو تحقيق السلام الدائم والعادل.

وقال ريتشارد هاس الدبلوماسي الأميركي السابق والرئيس الفخري لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي في تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأميركية إن الوقت قد حان لكسر هذا الجمود، لأن الوقت المتاح لتحقيق تقدم نحو اتفاق دائم بين الإسرائيليين والفلسطينيين يخدم مصالح الطرفين، آخذ في التلاشي بسرعة.

وستكون العوائق السياسية والمادية المطلوب تجاوزها للوصول إلى التسوية أصعب من أن يتم تجاوزها خلال فترة قصيرة من الآن.

الوقت المتاح لتحقيق تقدم نحو اتفاق سلام دائم يخدم مصالح الإسرائيليين والفلسطينيين، آخذ في التلاشي بسرعة

ونتيجة جهودها الخاصة في الغالب، تجد إسرائيل نفسها الآن، في وضع أمني موات، حيث تراجعت التهديدات على طول حدودها وفي المنطقة بشكل كبير، إن لم يكن قد تم القضاء عليها تماما.

ولم تكن إسرائيل أبدا في وضع أفضل مما هي عليه الآن لمواجهة التحدي الإستراتيجي الذي تشكله القومية الفلسطينية، والذي سيتطلب ردا ذا أبعاد سياسية وعسكرية. لكن هذا الوضع الجيد لا يمكن أن يدوم إلى الأبد.

ورغم وجود صديق في البيت الأبيض لإسرائيل مستعد لدعمها بطرق مهمة، فإن الدعم الأميركي والأوروبي طويل الأمد لإسرائيل غير مضمون، خاصة إذا أصبح المزيد من الأميركيين والأوروبيين ينظرون إليها كدولة منبوذة تحرم الآخرين من حقوقهم.

والآن تواجه إسرائيل خيارا صعبا. فإما أن تسعى بصدق إلى تسوية وتعايش سلمي مع الفلسطينيين، أو أن تخاطر بفقدان الدعم الدولي الذي تتطلبه رفاهيتها على المدى الطويل.

ورغم أن حل الدولتين أصبح بغيضا لدى كثير من الإسرائيليين، إلا أنه يبقى الأمل الأمثل لازدهارهم وأمنهم.

وإذا كانت إقامة دولة فلسطينية ستكون في صالح الفلسطينيين، فإنها ستكون أيضا في صالح إسرائيل. فالمساهمة في إقامة دولة فلسطينية من شأنها خدمة إسرائيل بقدر ما تخدم الآخرين.

وقد اقترب الإسرائيليون والفلسطينيون من التوصل إلى اتفاق وفق مبدأ أرض مقابل سلام في أكثر من مناسبة. لكن على مدار العقود الثلاثة أو الأربعة الماضية، فشلت الدبلوماسية.

ويرى هاس أن الفشل في الوصول إلى اتفاق يعود في جزء كبير منه إلى عدم رغبة القادة الفلسطينيين، سواء الرئيس الراحل ياسر عرفات، أو خلفائه، أو عدم قدرتهم، بسبب ضعفهم السياسي، على قبول ما عرضته إسرائيل بشأن الحدود، ووضع مدينة القدس، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

وأما معارضة حركة حماس للسلام فكانت ولا تزال أكثر جوهرية، لأنها تتطلب ضرورة قبولها بوجود الدولة العبرية كجزء دائم من المنطقة.

والآن أصبح ما كان ممكنا قبل سنواتـ، بالغ الصعوبة بالنسبة لتحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين.

إسرائيل لم تكن أبدا في وضع أفضل مما هي عليه الآن لمواجهة التحدي الإستراتيجي الذي تشكله القومية الفلسطينية
إسرائيل لم تكن أبدا في وضع أفضل مما هي عليه الآن لمواجهة التحدي الإستراتيجي الذي تشكله القومية الفلسطينية

ويعود هذا إلى حد كبير إلى تغير الوضع على الأرض. فهناك الآن العديد من العقبات أمام السلام – ولا سيما حوالي 140 مستوطنة مرخصة من الحكومة الإسرائيلية و200 بؤرة استيطانية غير مرخصة أخرى في الضفة الغربية.

وكل مستوطنة وبؤرة استيطانية تجعل تطبيق مبدأ الأرض مقابل السلام وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة أشد صعوبة؛ وكل مستوطن إضافي يخلق مقاومة سياسية لمثل هذه المقايضة ويرفع التكاليف الاقتصادية لإعادة توطين الناس.

كما أن المشهد السياسي في إسرائيل تغير. فقد تضاءل وجود أحزاب اليسار، وتعززت أحزاب اليمين الرافضة للاعتراف بحقوق الفلسطينيين. وهذا التحول السياسي مستمر منذ عقود ولكنه تسارع بسرعة منذ هجوم حركة حماس المسلح على إسرائيل في 7 أكتوبر 2023.

وقد عكست حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الائتلافية، التي تعتمد على دعم ما يمكن وصفه باليمين الديني القومي المتطرف، هذا التحول وسرعته.

ومع ذلك، لم يمت حل الدولتين بعد. سيكون من الأفضل للإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء وجود دولة مستقلة ذات سيادة وقابلة للحياة، يسكنها الفلسطينيون ويديرونها بأنفسهم، ولكن بشروط تمنعها من أن تشكل تهديدا أمنيا لإسرائيل.

ويمكن أن يقلص وجود دولة فلسطينية في الأراضي المحتلة مخاطر العنف الذي يستهدف إسرائيل، بطرق لا تستطيعها قوات الاحتلال الإسرائيلي. فالمسلحون الفلسطينيون يتصرفون الآن بحصانة شبه كاملة، إذ لا يتحملون أي مسؤولية عن الأرض أو الاقتصاد، وليس لديهم مواطنون مسؤولون عن حياتهم ورفاههم. وفي غياب دولة فلسطينية، من المرجح أن تواجه إسرائيل حربا أبدية.

وفي المقابل، ستواجه حكومة الدولة الفلسطينية المأمولة العواقب العسكرية والاقتصادية لأي هجمات تسمح بها ضد إسرائيل، والتي ستكون في هذه الحالة أعمالا حربية لا إرهابا. وكذلك عواقب الهجمات غير المصرح بها التي تنطلق من داخل حدودها، والمنتظر منها كحكومة ذات سيادة منعها.

كما أنه في حالة فشل أو امتناع مثل هذه الحكومة الفلسطينية عن ضمان أمن إسرائيل أو الوفاء بالتزاماتها الدولية، ستحظى إسرائيل بالدعم الدولي لأي تحرك يستهدف هذه التهديدات، كما حدث في أعقاب هجمات 7 أكتوبر، والذي تلاشى بنسبة كبيرة بعد أكثر من 22 شهرا من الحرب المدمرة التي تشنها إسرائيل ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

قيام دولة فلسطينية مازال حلم على ورق
قيام دولة فلسطينية مازال حلم على ورق

كما أن حل القضية الفلسطينية سيهيئ مسارا لاستمرار وتوسيع نطاق اتفاقيات السلام الإبراهيمي، والتطبيع بين الدول العربية وإسرائيل بشكل عام.

ويمكن للدول العربية أن تروج بسهولة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لمواطنيها إذا ما استطاعت أن تشير إلى مسار لإقامة دولة فلسطينية.

وقد أوضح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، أن عدم رغبة إسرائيل في استئناف الجهود الدبلوماسية القائمة على حل الدولتين هو ما يمنعه من السعي إلى توثيق العلاقات مع إسرائيل. كما أن تقليص أهمية القضية الفلسطينية سيسمح لمؤسسة الأمن القومي الإسرائيلية بالتركيز على تهديدات ملحة أخرى، وعلى رأسها تلك التي تشكلها إيران.

كما أن قيام دولة فلسطينية مستقلة سيفيد هوية إسرائيل وتماسكها الداخلي. فإسرائيل تضم حاليا حوالي مليوني مواطن عربي، وقد يتجه بعضهم نحو التطرف إذا استمرت إسرائيل في إحباط الطموحات السياسية الفلسطينية ومعاملة الفلسطينيين بهذه القسوة.

والأهم من ذلك، أن الدولة الفلسطينية ستحرر إسرائيل من خيارها بين أن تكون دولة ديمقراطية أو يهودية: فمنح خمسة ملايين فلسطيني حقوقا متساوية سيهدد يهودية الدولة اليهودية، بينما حرمانهم من هذه الحقوق يهدد ديمقراطية الدولة.

ومن الواضح أن جميع الدلائل تشير إلى أن إسرائيل ستحرمهم من هذه الحقوق، وهو اتجاه لن يؤدي إلا إلى زيادة عزلة إسرائيل الدولية.

وفي الوقت نفسه سيساعد انفتاح إسرائيل على قبول وجود دولة فلسطينية على تجنب وضعية الدولة المنبوذة عاليا، وهي وضعية تترسخ يوما بعد يوم كرد فعل على حربها في غزة.

لكن قيام دولة فلسطينية سيحتاج إلى مساعدة من الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية، والأهم سيحتاج إلى أن يؤكد الفلسطينيون بالكلام والفعل أنهم مستعدون للعيش في سلام مع إسرائيل.

وإذا كانوا مستعدين لذلك فستكون هناك فرصة لتطور السياسة في إسرائيل، ناهيك عن أنه سيكون على إسرائيل التجاوب بطريقة جيدة مع التوجه الفلسطيني السلمي.
وأخيرا فإن عدم قيام دولة فلسطينية يعني أن إسرائيل ستعيش في حالة حرب إلى الأبد.

6