غرق الخطاب السياسي السوري في مستنقع التطبيل
عبارات التمجيد التي تُهدى للحكام في المشهد السياسي السوري، لا تقتصر على كونها مجرد ردود فعل انفعالية أو اختلافات في وجهات النظر، بل تمثل انعكاسًا عميقًا ومزمنًا لطبيعة الخطاب السياسي السائد، حيث يختلط النفاق المركب مع جوقة من المتملقين والمطبّلين الذين ينسجون حول الحاكم أسطورة تأليه مبالغ فيها؛ هذا التشويه الخطابي لا يقتصر على خشبة التمجيد الفارغ، بل يتحول إلى آلية مدمرة تقوض أسس الدولة والمجتمع فتغرقهما في بحيرة من الأوهام السياسية التي تعيق أي محاولة حقيقية للإصلاح أو تصحيح المسار.
في العبارة الأولى، حين قيل لبشار الأسد “أنت قليل عليك الوطن العربي يجب أن تقود العالم”، تجلّى بشكل صارخ انزياح سياسي قاتل، كان يرمي إلى تحويل شخصية سياسية محدودة الإمكانيات وذات سجل متناقض إلى نموذج قوة مطلقة، وليس مجرد قائد دولة واحدة متعثرة. لم تكن هذه العبارة مجرد تعبير عن تبجيل شعبي، بل كانت منهجًا نظاميًا رسخ فكرة القيادة الكاريزمية المطلقة التي برّرت كل إخفاق ونسفت الواقع، كما أنها بالتوازي، شكلت نرجسية سياسية تنكرت للمصلحة العامة، وفردت أسطورة تسلطية جعلت من الحاكم محور الحضارة والنجاح، متناسية أن سوريا التي تُقاد بهذه الصورة وهذا الخطاب كانت مجرد حقل أشلاء متفرق تنهشه الأزمات والحروب.
الأمر الأخطر أن الجوقة السياسية المعلقة في دوامة التملق والتأليه تقود سوريا نحو مزيد من الانهيار حيث تتحول البلاد إلى مسرح مفتوح لتصفية الحسابات وتوظيف النفوذ الإقليمي والدولي
أما العبارة الثانية التي وُجهت لأحمد الشرع: “مثلك ما جابت النساء ولا قمطت داية”، فهي تعبير مكثف عن استراتيجة حرفية تنتمي إلى ذات النمط الخطير الذي يسعى لتأليه الحاكم وإلغاء الآخر، وإن اختلفت الصياغة الظاهرية والمضمون المباشر. فالعبارة، برغم تفاوتها في الأسلوب، لا تنظر إلى الشخصية السياسية فيه كفاعل في فضاء التعدد السياسي والاختلاف، وإنما تستخدم تشبيهًا مجازيًا يريح الجوقة السياسية التي تحكم الخطاب من أي منافسة أو حضور فعلي للشخصيات الأخرى، وتبني ميثاقًا ضمنيًا يستبعد من لا ينتمي إلى دائرة التأييد المطلق أو المنظومة السلطوية.
هذه العبارة تشكل جزءًا من آلية إقصاء ممنهجة، لا تقل غموضًا أو خطورة عن التمجيد المباشر؛ إذ تعمل على نفي شرعية ومشروعية الوجود السياسي للآخر المختلف، وتوصم فاعليه بالقصور أو العجز، ما يحولهم إلى “غير صالحين” للعب دور سياسي أو حتى تمثيلي. بهذا المعنى، هي تعبير عن عنف سياسي رمزي يماثل في فاعليته وأثره محاولة فرض هيمنة وحيدة المركز على مجمل الفضاء السياسي السوري، وتسيد مجتمع سياسي محكوم بالولاءات والارتباطات الضيقة على حساب التنوع والتعددية.
وبذلك، تضاف هذه العبارة إلى سجل خطاب الحوار السياسي الإلغائي، الذي يتماهى مع خطاب التمجيد الفجّ، لتشكّلان معاً بنية تحكمية تمارس فناً دقيقاً من الإخضاع السياسي المبطن باسم الزعامة والقيادة المطلقة. هي إعادة إنتاج لنفس الدينامية التي تحوّل العملية السياسية إلى استعراض للسلطة، تزيد من تعميق الانقسام وتضعف كل إمكانية للوحدة الوطنية القائمة على الحضور المتوازن للأطراف المختلفة، وهو ما يحرّم على سوريا أي مشروع سياسي مستدام أو إصلاح حقيقي، ويعزز من هوة الانقسام والشلل السياسي.
هذه الطقوس الخطابية التي تصنع أسطورة القيادة تعصف بأي محاولة حقيقية لإصلاح ذاتي أو مراجعة سياسية، وتتغذى على خطاب التمجيد عبر تربية طبقة جديدة من “المنافقين” الذين يرتشحون من تحت أجنحة السلطة، ويعملون على تجييش المشاعر وتصفية حسابات المعارضين بتنميطهم وسحبهم إلى دائرة الشر، باعتبارهم خونة أو أعداء للوطن. في هذا الجو المشحون، يخسر المجتمع أية قدرة على الحوار العقلاني والنقد البناء، وتُعطّل مؤسسات الدولة كليا، لأنها إما بالإجمال مهدورة أو مُبعدة لصالح سلطة فردية مذعورة من أي مساءلة.
هذا الخطاب الشعبي رغم تعبيره غير الرسمي وأسلوبه الحاد، ينبع من ضعف مشروع القيادة وأزمات الحضور السياسي الذي لا يتجاوز دائرة المصالح الضيقة والمناورات الشخصية.د، ويمكن اعتباره نسخة أخرى من النفاق السياسي المستمر الذي يغذي فراغ الشرعية عبر استنزاف ثقة الناس وتهميش برامج التغيير.
سوريا المحكومة بهذه الثقافة الخطابية المسمومة عبر تأليه مفرط، تجد نفسها أسيرة لعبة مهلكة من النفاق والتطبيل والسياسات الشخصية، تفقد فيها الدولة مشروعها الوطني
في جوهر هذا المشهد المتشابك، تعمل جوقة من المنافقين على لعبة مركبة تشبه المسرحية العبثية؛ فهي تهمس في أذن الحاكم بأن الحلم بتأليه القيادة أمر ممكن ومبرر، وفي الوقت نفسه تستغل السخرية الشعبية والرفض المجتمعي لتوقع الفوضى والفراغ الذي تستثمره لتكريس دورها كمسيطر على المشهد السياسي والاجتماعي. هذه الدورة الذاتية من التمجيد المسرحي واللغو السياسي أنتجت حالة من الجمود السياسي المتقن الذي يعيد إنتاج الأزمة السورية يوماً بعد يوم.
الأمر الأخطر أن هذه الجوقة السياسية المعلقة في دوامة التملق والتأليه تقود سوريا نحو مزيد من الانهيار، حيث تتحول البلاد إلى مسرح مفتوح لتصفية الحسابات وتوظيف النفوذ الإقليمي والدولي، مترجمة الطيف السياسي السوري كله إلى لعبة أداة تستخدمها قوى خارجية تحت غطاء التمجيد الزائف. في هذه الأثناء، يُهمش زعماء حقيقيون أو تُستبعد قيادات ذات حضور وطني حقيقي، وهو ما يعكس هشاشة المشهد السياسي وتعثره المزمن، مما يجعل السوريين يعيشون في مأزق لا يجدون فيه سبيلًا للخروج إلى فضاء سياسي ينبض بالفعالية والتغيير الحقيقي.
في النهاية، سوريا المحكومة بهذه الثقافة الخطابية المسمومة عبر تأليه مفرط، تجد نفسها أسيرة لعبة مهلكة من النفاق والتطبيل والسياسات الشخصية، تفقد فيها الدولة مشروعها الوطني والموحدة، ويغدو المواطن مجرد أداة تُحركها جوقة من المنافقين بلا هوية سياسية حقيقية، ولا رؤية قادرة على تغيير الواقع المؤلم.
الحل لا يكمن في الاستمرار بدور الجوقة ودور المسرحيات اللغوية، بل في بناء ثقافة سياسية وطنية قائمة على الشفافية والمساءلة، وإعادة تأسيس إطار سياسي يسمح للنقد البناء بالانفتاح، وحيث تُناقش القيادة وأداؤها كجزء من منظومة وطنية متكاملة تخدم الأهداف الكبرى للبلد، وليس ضمن مشاهد مهزلة تأبيد النفاق وتكريس الطبل والتنظير الزائف.