خذوا الموقف من أهله

الرجل الذي اختار دراسة الذكاء الاصطناعي في ديار الغربة لا يزال رهين الغباء البشري.
الثلاثاء 2025/08/05
تمثال عين الفوارة.. صرح أثري يطاله التطرف

الرسالة كانت واضحة في سرعة المحاكمة، وفي الحكم الثقيل الذي نطقت به محكمة سطيف الجزائرية، في حق الشاب الذي خرّب مجددا تمثال عين الفوارة، ومفادها أن المؤسسات الرسمية لن تتسامح تجاه من يريدون إعادة إنتاج أفكار التطرف الديني، لكن الأمر ينطوي على الكثير من الاستفهامات، ما دام التشدد الذي عهده الجزائريون يركب رؤوسا كانت في الغالب مهيأة لاستيعاب أي طرح، يتمدد شيئا فشيئا إلى رؤوس نخبوية، يعتقد أنها هي التي ستقود قاطرة البلاد في المستقبل.

وبعد أن تبنى شاب من متصدري نتائج امتحان البكالوريا العام الماضي فكرة دينية متشددة، تبيّن أن الرجل الذي اختار دراسة الذكاء الاصطناعي في ديار الغربة لا يزال رهين الغباء البشري، ويوضح للناس أن نبوغه في مجالات معينة لا يعني أنه متكامل التنشئة والتهيئة العقلية والمعرفية، وإلا كيف له أن ينبغ في مجال علمي حديث، لكنه يحبس نفسه في دائرة النقل المتوارث عن مدرسة تقود فكر الأمة منذ ثمانية قرون.

وهنا تطرح مدى وجاهة المقاربة التي تريد السلطة تذكير الناس بها، في ما يتعلق بالتعاطي مع التطرف الديني، وإذ انتهت المأساة الوطنية إلى ربع مليون ضحية خلال العشرية الدموية وآلاف المفقودين وتراكمات ثقيلة من التداعيات المادية والمعنوية، فإن بقاء أو ظهور روابط بالظاهرة يوحيان بأن المجتمع لم يتخلص من بذور التطرف رغم فداحة الخسائر.

ومنه فإن المقاربة في حد ذاتها تحتاج الى مراجعة، لكي لا تكون محاربة التطرف مفتاحا لباب يفتح على تطرف في الجانب الآخر، ما يعني أن القبضة المتشددة لا تعني بالضرورة القضاء على الظاهرة، ما دامت البذور قابلة للإنتاش، وما تمت تجربته بالسلاح والقبضة الشديدة خلال العشرية الدموية يحتاج إلى مقاربة موازية لتفكيك التطرف، بداية من الأسرة ثم المدرسة ثم باقي الفواعل ذات الصلة، وأبرزها المنظومة التعليمية التي ما زالت تعتمد على الحفظ والسرد والنقل، وتهمش دور العقل في التفكير والتعليل والمساءلة، من أجل التمهيد لعقول لا تستوعب أي طرح دون أن تقتنع به بحجج صلبة.

تمثال عين الفوارة في مدينة سطيف تعرض لخمس محاولات تخريب منذ عام 2012، وفي كل مرة يثار جدل صاخب في البلاد حول تحجر العقول والكبت الغرائزي وتسلل التطرف الديني، لكن لا نقاش فتح بين أطياف المجتمع حول تمثال يعتبره البعض رمزا لعين الفوارة ولمدينة سطيف، ويعتبره البعض الآخر رمزا لخدش الحياء واستفزاز أخلاق وقيم المجتمع.

وهذا الحوار الغائب أو المغيب هو الذي زاد من تصلب مواقف المتنازعين عن التمثال، وفي الكثير من القضايا والملفات يغيب الحوار والنقاش، وإذا كانت السلطة تعتقد ذلك استقرارا وسلما اجتماعيا يكتنف الشارع الجزائري، فإنها غير موفقة في طرحها، لأن المجتمع الذي يفتقد لأصول وقنوات النقاش والحوار، هو بيئة في حد ذاتها للتطرف ولمختلف الأفكار والمشاريع الأيديولوجية.

وهو أمر بات مطلوبا أخذه بعين الاعتبار ضمن المقاربة الشاملة لمكافحة التطرف، والتي تتوجب مساهمة جميع الفاعلين فيها، فلا القبضة المتشددة ولا الصدام كافيان لمواجهة الظاهرة، ما دامت هناك أسرة ومدرسة وإعلام ومسجد ووسائل تواصل اجتماعي، وحد أدنى من الحرية في الطرح والنقاش، فالفكرة لا تقضي عليها إلا الفكرة.

وبعيدا عن معتقدات الإسلاميين المتشددين، ومواقفهم المرتبكة من قضايا الأسرة والمرأة والأخلاق.. وغيرها، فإن سكان سطيف وعموم الجزائريين لا بد من احترام رأيهم في المسألة، ولأن المدينة مدينتهم فمن حقهم أن تمنح لهم الفرصة لمعرفة موقفهم بدل أخذه من متطرفين اثنين، واحد إسلامي وآخر علماني، فإن رضوا تركوا التمثال وإن رفضوا نزعوه، فهم أصحاب القرار الحقيقيون.

18