"الطانفا" رحلة تاجر شمع تفكك التصورات النمطية عن أفريقيا

بوغارارة يلاحق نبض أفريقيا وسرّ الشمع الملهم.
الأربعاء 2025/09/03
إعادة بناء صورة متكاملة ومعقدة للقارة السمراء

تحفل قارة أفريقيا بحكايات كثيرة أغلبها مجهول أو منسي، بينما تنتشر الصور النمطية عن القارة السمراء وسكانها وشعوبها وثقافاتها، رغم الزخم الحضاري الكبير الذي تضمه. الروائي الجزائري الصديق حاج أحمد يبتكر حكاية مثيرة في رحلة عبر ربوع أفريقيا، نكتشف من خلالها ملامح أخرى وتفاصيل ملهمة عن القارة.

رواية “الطانفا” للروائي الصديق حاج أحمد سردية تتخطى مجرد القصة الفردية لتلامس جوهر القارة الأفريقية برمتها، مقدمة رؤية شاملة لمختلف أبعاد الوجود الإنساني فيها.

تدور الفكرة الرئيسية للرواية حول رحلة البحث عن الهوية الأفريقية المتشابكة مع ديناميكيات التجارة والذاكرة التاريخية والتحولات الثقافية. يمثل البطل “بوغارارة” الذي تبدأ حياته كتاجر للشمع الأفريقي (الطانفا)، محور هذه الرحلة التي تمتد عبر أزمنة وأمكنة شاسعة، ليصبح رمزاً للتاجر الأفريقي العابر للحدود، الذي لا يحمل البضائع فحسب بل قصص الشعوب وحكمة الأجداد وتحديات العصر.

الوجود الأفريقي

 تتجلى هذه الفكرة في كل منعطف من حياته، حيث تُبرز الرواية كيف أن التجارة ليست مجرد نشاط اقتصادي، بل هي شبكة معقدة للتواصل البشري، وتبادل الثقافات، وتشكيل الهويات. إن “الطانفا” في حد ذاتها تتجاوز كونها مادة خام؛ إنها تتحول إلى استعارة عميقة للذاكرة الثقافية، والمرونة الأفريقية، وقدرة الهوية على التكيف والتحول.

تتفرع من هذه الفكرة الرئيسية عدة أفكار ثانوية تُثري النسيج الروائي وتعمق معانيه. أولاً، موضوع ما بعد الاستعمار وتداعياته على الهوية الأفريقية. تكشف الرواية كيف أثر الوجود الاستعماري الفرنسي والبريطاني على الشعوب الأفريقية، ليس فقط سياسياً واقتصادياً، بل كذلك على المستوى النفسي والاجتماعي. يتم ذلك من خلال شخصيات عاصرت تلك المرحلة، وعانت من آثارها، وسعت للتحرر منها أو التكيف معها.

ثانياً، قيمة الموروث الشفهي والأسطوري في تشكيل الوعي الجمعي والفردي. إذ تُبرز الرواية أهمية الحكايات الشفهية والأساطير الأفريقية، والمعتقدات الروحانية، كجزء لا يتجزأ من النسيج الثقافي، وكوسيلة للحفاظ على الذاكرة وتفسير الواقع. هذه الأفكار تتجسد في الإشارات المتكررة للأجداد، وتأثير الفودو، وحكمة الشيوخ الروحانيين.

رواية “الطانفا” نسيج يتجاوز السرد القصصي ليخوض في تساؤلات وجودية حول الهوية والذاكرة والزمن في السياق الأفريقي
◙ رواية "الطانفانسيج يتجاوز السرد القصصي ليخوض في تساؤلات وجودية حول الهوية والذاكرة والزمن في السياق الأفريقي

 ثالثاً، المزج بين التقليد والحداثة وتأثير العولمة. تُظهر الرواية كيف تتفاعل المجتمعات الأفريقية مع التحولات العالمية؛ يحافظ الأفارقة على أصالتهم وموروثهم، وفي نفس الوقت هم منفتحون على تجارب جديدة وتقنيات حديثة. هذه الديناميكية تخلق صراعاً، يعكس حيوية القارة وقدرتها على التجدد.

رابعاً، الرحلة الجغرافية كرحلة داخلية للذات والوعي. فكل تنقل لبوغارارة، من الصحاري الشاسعة إلى المدن الصاخبة، ومن الأسواق التقليدية إلى المراكز التجارية العالمية، يقابله اكتشاف ذاتي وتطور روحي، ما يجعله شخصية مركبة تعكس تحولات القارة نفسها. هذه الأفكار الثانوية، مجتمعة، تساهم في بناء عالم روائي غني، يعكس تعقيدات الوجود الأفريقي بكل تناقضاته وثرائه، ويقدم رؤية عميقة لمفهوم الهوية في عالم متعدد الأبعاد.

يحمل عنوان الرواية، “الطانفا”، دلالات تتجاوز مجرد التسمية المباشرة، ليكون مفتاحاً لفهم جوهر العمل وتوجهاته الفكرية. يُشير العنوان بوضوح إلى “الشمع الأفريقي”، وهو ليس مجرد سلعة تجارية في الرواية، بل يتحول إلى رمز متعدد الأبعاد. فالطانفا ترمز أولاً إلى الأصالة الأفريقية والهوية الثقافية؛ إنها نتاج للحرفية المحلية، وتاريخ طويل من التبادل التجاري والثقافي، وتزيين الجسد الأفريقي، ما يجعلها جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي والجمالي للقارة. كما أنها تمثل الصلة بين الماضي والحاضر، حيث تُذكرنا بالتراث الغني والمهارات التقليدية، بينما تعكس في الوقت ذاته القدرة على التكيف والتجدد في مواجهة العولمة والتغيرات الاقتصادية.

ويمكننا فهم “الطانفا” كاستعارة للتجارة العابرة للحدود وأثرها في تشكيل الحضارات؛ إنها محرك للرحلات الطويلة، وسبب في لقاء الشعوب وتراكم الثروات، ما يربط بين مختلف مناطق أفريقيا والعالم. وللشمع قابلية التشكيل والصبغ، مما قد يرمز إلى مرونة الهوية الأفريقية التي تتأثر وتتفاعل مع الثقافات الأخرى دون أن تفقد جوهرها. إنها هوية دائمة التطور، قادرة على استيعاب الجديد دون التخلي عن القديم.

تُشكّل رواية “الطانفا” نسيجا يتجاوز السرد القصصي ليخوض في تساؤلات وجودية حول الهوية والذاكرة والزمن في السياق الأفريقي. تقوم فلسفة الرواية على مبدأ أساسي هو تفكيك التصورات النمطية عن أفريقيا وإعادة بناء صورة متكاملة ومعقدة للقارة السمراء، لا تُختزل في الفقر أو الصراع، بل تُبرز ثراءها الثقافي والروحاني، وقدرتها على الصمود والتجدد.

 يتجلى هذا العمق الفلسفي في عدة محاور: أولاً، فلسفة الرحلة والعبور: تُقدم الرواية الحياة كرحلة مستمرة من الانتقال والتكيف، حيث يصبح البطل “بوغارارة” رمزاً للإنسان الأفريقي الذي لا يتوقف عن الحركة، سواء جسدياً بين المدن والأسواق، أو روحياً بين المعتقدات والتقاليد. كل محطة في هذه الرحلة هي درس، وكل لقاء هو إضافة، وكل عبور هو خطوة نحو فهم أعمق للذات والعالم.

الرحلة هنا ليست مجرد انتقال من مكان إلى آخر، بل هي مسار لتشكيل الوعي، وتراكم الخبرات، واكتشاف الأبعاد الخفية للوجود. وتُبرز الرواية فلسفة التعددية الثقافية والتلاقح الحضاري، حيث تتجاوز الثقافة الأفريقية كونها كياناً واحداً متجانساً، لتُظهر أنها نسيج غني من التفاعلات. تقدم الرواية شخصيات تتحدث لغات متعددة (العربية، الفرنسية، الإنجليزية، السواحيلية)، وتمارس طقوساً دينية وروحانية متنوعة (الإسلام الصوفي، الفودو، المعتقدات المحلية)، وتتبنى أنماط حياة تجمع بين الأصالة والمعاصرة. هذا التلاقح لا يُنظر إليه كصراع، بل كقوة دافعة للإبداع والتجدد، تُثري الهوية الأفريقية وتمنحها فرادتها.

شكل روائي مرن

تُعد الشخصيات في رواية “الطانفا” اللبنة الأساسية التي يتشكل منها العمل، فهي ليست مجرد أدوات لتسيير الحبكة، بل هي كائنات حية، تتطور وتتفاعل مع بعضها البعض ومع الزمن والمكان، وتعكس بذلك الأفكار الفلسفية والثقافية للرواية.

في محور هذا العالم تتربع شخصية “بوغارارة”، التاجر الرحالة، كشخصية محورية وديناميكية. إنه ليس مجرد بطل، بل هو رمز للهوية الأفريقية المتغيرة، جسر بين الماضي والحاضر، وبين التقاليد والحداثة، وبين مختلف مناطق القارة. دوره يتمثل في كونه المحرك الأساسي للأحداث، فمن خلال رحلاته التجارية وعلاقاته تتكشف عوالم الرواية المتنوعة. هو شخصية مركبة تجمع بين الطموح التجاري والبحث الروحي، يتأثر بالاستعمار ولكنه يحافظ على جذوره، يجيد اللغات المختلفة ولكنه يحافظ على لهجته الأصلية، ويمثل التاجر الذي يحمل الثقافة والتاريخ. من خلال “بوغارارة” نكتشف ثيمات التجارة والعولمة والروحانية وأثر الزمن على الفرد والمجتمع.

تتكامل الشخصيات الثانوية مع شخصية “بوغارارة” لترسم صورة بانورامية للمجتمع الأفريقي بتعقيداته وثرائه. زوجات “بوغارارة” المتعددات، كل واحدة منهن من منطقة أو خلفية مختلفة، لا يمثلن مجرد أدوار عائلية، بل هن رموز لتعدد الثقافات والاتصالات القبلية في أفريقيا. فمنهن من تمثل الأصالة والتقاليد، ومنهن من تشير إلى الانفتاح على الحداثة أو التأثر بالثقافة الغربية، مما يبرز تداخل العادات والقيم في حياته.

◙ الرواية تدور حول رحلة البحث عن الهوية الأفريقية المتشابكة مع ديناميكيات التجارة والذاكرة التاريخية والتحولات الثقافية

أبناؤه وبناته يمثلون الجيل الجديد الذي يواجه تحديات الحفاظ على التراث في عالم سريع التغير. تعليمهم وخياراتهم المهنية وعلاقاتهم مع والدهم تُلقي الضوء على الصراع بين التمسك بالجذور والانفتاح على آفاق جديدة، وكيف يتلقون هذا الميراث الثقيل من تاريخ العائلة والقارة.

ويلعب الشيوخ الروحانيون والمعلمون، مثل مولاي المهدي والشيخ الكنتي، دوراً جوهرياً في توجيه “بوغارارة” وإمداده بالحكمة الروحية. هؤلاء لا يقدمون حلولاً سحرية، بل يشكلون مصدراً للمعرفة التقليدية، ويُذكرون البطل بأهمية التواصل مع الأجداد والعالم الروحي، ويقدمون منظورا فلسفيا للحياة يتجاوز المادية الصرفة. إنهم حراس الذاكرة والمعتقدات الأصيلة التي تشكل جزءاً أساسياً من الهوية الأفريقية.

من جهة أخرى تُقدم الشخصيات التجارية، مثل ألومي ويعقوب يوسوفو، نماذج مختلفة لأساليب التجارة في القارة، من التاجر التقليدي إلى رجل الأعمال الأكثر حداثة. هم يشكلون شبكة العلاقات التي تدفع الأحداث إلى الأمام، وتُظهر تعقيدات سوق الطانفا وتحدياتها، وتسلط الضوء على الصراعات والمنافسات، وكذلك على الشراكات والتحالفات التي تُبنى على المصالح المشتركة. وتُضفي الشخصيات العابرة، من سكان القرى أو عمال الموانئ أو مسؤولي الإدارة، أو حتى اللصوص، واقعية وغنى على السرد. كل شخصية، مهما كانت عابرة، تساهم في بناء صورة بانورامية للمجتمع الأفريقي، تُبرز التنوع البشري، وتظهر التحديات اليومية التي يواجهها الأفراد في بيئاتهم المختلفة.

 كما تُشير الرواية إلى الشخصيات الاستعمارية أو الأوروبية من خلال تأثيرها الباقي على البنية الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية، أو من خلال الحوارات التي تشير إلى أساليبها في التعامل مع الأفارقة، مما يعزز البعد التاريخي والسياسي للرواية دون أن يركز السرد عليها مباشرة. كل هذه الشخصيات، رئيسية وثانوية، تتفاعل في نسيج روائي محكم، لتُقدم لنا تجربة غنية في فهم الهوية الأفريقية المتجددة، وتُظهر كيف تتشابك حياة الأفراد مع مصير قارتهم وتاريخها العريق.

ختاما، تقدم رواية “الطانفا” نموذجاً لشكل روائي مرن يتكيف مع اتساع موضوعاتها وعمق أفكارها، وتوظف لغة غنية ومتنوعة تعزز أصالتها. من حيث الشكل العام للرواية، يمكن وصفها بأنها ملحمة تتجاوز حدود البنية الروائية التقليدية الصارمة. هي رواية ذات طبيعة متعددة الأجناس الأدبية، حيث تمزج بين السرد التاريخي، وعناصر الواقعية السحرية، والسيرة الذاتية، والرحلة، والحكايات الشعبية.

 هذا التنوع يُمكّن الكاتب من استيعاب الكم الهائل من المعلومات، وتداخل الأزمنة والأمكنة، وتعدد الشخصيات، مما يجعل الرواية أشبه بلوحة فنية بانورامية واسعة. وعلى الرغم من فصولها المتتابعة، قد نشعر أحياناً بأنها سلسلة من القصص المترابطة أكثر منها حبكة خطية واحدة، ما يعكس تأثير الحكي الشفهي.

12