مرتضى علي ورفاقه.. عراقيون ينتصرون بالمسرح لقضايا النساء شرقا وغربا
إلى أيّ مدى قد ينجح عمل مسرحي تخلى عن النص وراهن على أجساد ذكورية في أن يروي للجمهور حكاية تمرد نسائية؟ وإلى أيّ مدى قد ينجح العمل في تبليغ رسالة مهمة كتلك التي يحتويها نص "الشقيقات الثلاث" لتشيخوف؟ حول هذه التساؤلات وأكثر يجيبنا المخرج والراقص مرتضى علي الذي اختار أن يعالج رائعة تشيخوف برؤية فنية منفتحة على الرمزية والتجريب تشتغل على الفضاء والضوء والصوت وحركة الجسد، تاركا للمشاهد حرية تفسير المعنى من خلال تفاعله مع الصورة الحركية والجو العام للعرض.
كان الروسي أنطون تشيخوف (1860 – 1904) بطلا مسرحيا في التعبير عن اضطرابات الروح البشرية، بالكثير من الرمزية والبساطة في آن واحد، مع تجميد أغلب الأحداث الخارجية، فهو شديد التركيز على الحالة النفسية للشخصيات التي ستنعكس بالضرورة على المزاج العام للعمل المسرحي، إذ يبحث بمسرحه في معاناة الأنفس ويحررها على الخشبة.
في مسرحيته “الشقيقات الثلاث” التي كتبها عام 1900 وعرضت لأول مرة عام 1901، قبل ثلاث سنوات فقط من رحيله بمرض السل الذي تمكن منه ومن روحه، روى لنا تشيخوف مأساة من أربعة فصول، عن ثلاث شقيقات يعشن في بلدة ريفية نائية في روسيا ويحلمن بالعودة إلى حياتهن الأرستقراطية في موسكو بعد وفاة والدهن، مستعرضا تطلعاتهن وإحباطهن وتعقيدات الحياة التي تواجههن في سعيهن لتحقيق أحلامهن بالعودة إلى المدينة.
لا يزال هذا النص المسرحي الشهير يحظى بالدراسة والاقتباس وإعادة التقديم وفق تصورات مسرحية ورؤى متنوعة ومتأثرة ببيئة أصحابها وظروف أوطانهم ومآسي النساء التي لا تنتهي هنا وهناك وتبدو ممتدة في الزمان والمكان.
من هؤلاء مرتضى علي، مخرج وكوريغراف عراقي شاب، يسير بخطى متناغمة وثابتة ليؤكد اسمه كواحد من الفاعلين في المسرح العراقي، حيث اختار أن يعيد تقديم “الشقيقات الثلاث” بقراءته الخاصة، وبرؤيته الخاصة لواقع النساء ضمن عمل مسرحي كوريغرافي أطلق عليه “اليوم الآخر”.
علينا أن نستمر
قدم مرتضى لعمله بالقول إن “حالة الرضوخ واليأس والاضطهاد التي تعيشها المرأة ليست وليدة العصر، بل هي امتداد للحضارات السابقة التي قلبت كفّة المركزية من المركزية الأنثوية إلى المركزية الذكورية، وجعلت من المرأة كائنا ضعيفا منتهكا على مر العصور، إذ نشاهد السيدات الثلاث التي حكمت الأعراف البائسة عليهن، وذلك النقاب الذي يحجب عنهن النور الداخلي والخارجي. وبسبب تلك القيود تحرم النساء الثلاث من مشاهدة شقيقهن أندريه. تبدأ النساء بذلك الصراع مع الأيام ويحاولن التخلص من القيود كشرنقة تحوم حول لهيب يحاولن ألا يحترقن به ويواصلن السعي في حلقة مفرغة من الأحداث المتتالية التي تدعى الحياة للبحث عن أمل مفقود.”
“علينا أن نستمر ونستمر ونستمر” هكذا يعبّر مرتضى عن لسان حال الشقيقات الثلاث، وهكذا أكد العرض المسرحي الذي راهن على الجسد وقدرته على سرد الحكاية.
مع بداية العرض، تنقسم الخشبة إلى محورين، حركتين لجسدين يتماهيان مع موسيقى أشبه بدقات القلب وقرع طبول البداية، هناك على يسار الخشبة امرأة حامل منقبة، تصارع آلام المخاض، تتلوى، تئن دون صوت، تنتفض، حتى يحين الخلاص، فتسلط الإضاءة يمين الخشبة على كتلة بيضاء، تتكشف تدريجيا عن ميلاد إنسان جديد، ذكر، سرعان ما انتفض واقفا محاولا أن يقول للدنيا أنا هنا، لقد جئتك. ثم تظهر ثلاث نساء، يرتدين أثوابا متشابهة، يستكملن وصلات الرقص والحركات الجسدية.
الجسد هنا هو البطل، حوله يدور كامل العمل، مع ما يرافقه من مؤثرات صوتية وبصرية، ومهمته ليست يسيرة، وإنه لتحد كبير أن يعبر الممثل/ الراقص بجسده عن فكرة ويستطيع إيصالها إلى متلق، قد يكون أعلم منه وربما أيضا أكثر جهلا بالمسرح ممّا يظن.
والمفارقة هنا، أن النص عن معاناة نساء، لكن أبطاله كلهم رجال، يحملون على عاتقهم تحرير مشاعر أنثوية مكبوتة، لم تختلف كثيرا بين روسيا في القرن 19، والعراق أو المنطقة العربية اليوم، وأيّ قدرة يمتلكها هؤلاء ليتقمص أحدهم دور امرأة ويغوص في أعماق مشاعرها، معاناتها، عقدها، رغباتها، مخاوفها، ويحاول أن يتماهى مع جسدها وتكوينه الفيزيولوجي، ومن ثم يتجرأ بالتعبير عنه.
لم نعرف هويات النساء الثلاث، فمرتضى علي اختار أن يلتزم العرض الصمت المستفز، تاركا للمتفرج حرية استكمال الهويات والحكاية والنص إن شاء. لم نعرف هوياتهن، لكنهن كن قادرات على شد انتباه المتفرج والتأثير فيه، وإحداث حركة في مشاعره، وربما لن يدرك سرها، هي حركة تتفاعل مع حركة الراقصين ومعانيها، فهن في محاولات جاهدة للتحرر، محاولات تبوء بالفشل، يلطمن على وجوههن، يصرخن دون أصوات، يضربن على أرحامهن، والرحم ذلك الجزء الصغير من المرأة الذي تدور حوله حياتها بالكامل، هناك حصر دورها في الحياة، واعتبرتها كل الأديان بسببه خطيئة، ذنبا، فتنة، ووعاء لشهوات الرجل، لا مانحة للحياة.
والمفارقة المثيرة في هذا العمل، ليس فقط أن من يعبّرون عنا نحن النساء ممثلون/ راقصون رجال، بل إن كل من يتكلمون بصوتنا في هذا العمل رجال فـ”اليوم الآخر” كوريغرافيا وإخراج مرتضى علي، وأداء علي دعيم وعلي جابر ومهتدى باسم وفكرت حسين ومرتضى علي، وسينوغرافيا علي محمود السوداني وماكياج هشام جواد وإدارة مسرحية عدنان أحمد وأزياء أمير جواد وتنفيذ موسيقى محمد حميد وتنفيذ الإضاءة ناظم حسن ومحمد طاهر ومصطفى شاكر وهو من إنتاج منتدى المسرح التجريبي، قسم المسارح، دائرة السينما والمسرح 2025.
تكتب كل هذه الأجساد الراقصة والعقول الصانعة للعرض سردية تمرد، تمرد المرأة العراقية – ومثلها العربية – وصراعها الحقيقي لأجل أن تحيا حرّة وصامدة. تجربة حسية مثيرة، تصدر عن أجساد متناغمة، تتحرك في إيقاع درامي يعكس الصراع الداخلي للنساء بين الرغبة في الحرية والخوف من العواقب، وتقدم أداء متواترا بين السكون والتوتر، الاحتجاج والرضوخ.
لذا، يأتي الأداء الحركي في “اليوم الآخر” تجربة حسية حركية مثيرة تعكس تمكن الممثلين من منح الجسد قدرته على الاحتجاج والصراخ والتمرد، تجربة فريدة وصادمة، تجربة مختلفة عن تجارب سابقة تناولت نص تشيخوف، راهنت على المزج بين الجمالي والفكري في آنٍ واحد.
وجاءت السينوغرافيا عاملا معززا للعرض الراقص بتنوع التقنيات التي وظفها السينوغراف علي محمود السوداني، ليصنع عرضا يحمل من الإبهار البصري الكثير.
و”اليوم الآخر”، عنوان العرض، قد يحيلنا إلى فكرة تسيطر على الوعي الجمعي، معتقد ديني يذكّر بأن هناك يوما آخر تبعث فيه الأجساد حرة، تحقق فيه الأمنيات دون قيود، لا فرق فيه بين ذكر وأنثى، تتحرر فيه النساء من قيود المجتمعات الذكورية شرقا وغربا، لكن إلى أيّ مدى يحتمل الإنسان تأجيل أمنياته إلى اليوم الآخر؟ إلى متى تتنازل النساء عن حقهن في العيش بحرية، يقدمن معاصمهن هدية للسجانين، يخنقن أصواتهن ويخفين رغباتهن إرضاء لمن أوهمهن بأن عيشهن بحب وحرية وسلام إثم كبير سيحاسبن عليه في اليوم الآخر؟
إنه عمل حمل منذ عتبته الأولى إشارة لفجوة عميقة في الفكر العربي، الذي يأتي الفكر العراقي جزءا منه. عمل تم تناوله بطريقة تجريبية حرّرته من سلطة النص المسرحي الأصلي والنص المسرحي عموما، وراهن على الجسد وموهبة الممثلين الذين يصقلونها منذ سنوات تحت إشراف خبراء في الرقص المسرحي بالعراق، وهو رهان مكنهم من اقتناص المركز الأول لجائزة أفضل دراما حركية إلى جانب جائزة أفضل تصميم إضاءة وجائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان الإسكندرية المسرحي الدولي “مسرح دون إنتاج”.
قراءة جديدة للواقع

في حوار مع “العرب” عاد بنا مرتضى علي إلى نص “الشقيقات الثلاث”، حيث يقول إن “هذه المسرحية تُعتبر واحدة من أهم نصوص تشيخوف الكلاسيكية وغالباً ما يختارها المسرحيون لأنها تحمل أبعاداً إنسانية وفكرية. النص يناقش معنى الحياة والبحث عن السعادة وطموحات الإنسان مقابل خيبات الشقيقات الثلاث اللواتي يمثلن الحلم الإنساني بالانتقال إلى مرحلة انتقالية بالاستمرار رغم كل المعرقلات، كرمز للخلاص أو الأمل المؤجل ما يجعل النص صالحاً للتأويل في كل زمان ومكان.”
ويؤكد أن هذا النص الشهير “يمكن التعامل معه بأساليب إخراجية حديثة، لأنه نص مفتوح على التفسيرات والتأويلات يعكس صراع الأفراد أمام التغييرات الاجتماعية والسياسية ما يجعله قريبا من واقعنا العربي المعاصر. والنص يتسم بجو شاعري رصين يمزج بين الحزن والأمل ما يتيح معالجة جمالية في الأداء والإخراج.”
ويبرر الفنان العراقي الشاب الذي يخوض تجربة الإخراج للمرة الأولى، أن اختياره “الشقيقات الثلاث” ليس فقط “لإعادة تقديم نص كلاسيكي بل فرصة لقراءة جديدة للواقع وإسقاط ما فيه من فقدان واغتراب وانتظار غير محقق.”
اختيار "الشقيقات الثلاث" فرصة لقراءة جديدة للواقع وإسقاط ما فيه من فقدان واغتراب وانتظار غير محقق
ويوضح أن “الكثير من الكتّاب المسرحيين جعلوا من المرأة محورا رئيسيا لأعمالهم مثل تشيخوف، إبسن لوركا، وغيرهم، ونص مثل الشقيقات الثلاث لتشيخوف يعكس صراع المرأة مع المجتمع الذكوري ويطرح أسئلة الحرية والاختيار والهوية.”
ويختصر هذا النص المسرحي المهم الذي يتناوله بصفته مخرجا عراقيا متأثرا حتما ببيئته ونشأته، بالقول “نحن أمام ثنائية قوية: القمع مقابل الرغبة المستميتة وهما موضوعان مثاليان، القمع يمثل السلطة والمجتمع والأعراف والخوف الداخلي، أما الرغبة المستميتة فتمثل توق الإنسان إلى الحرية الحب الحياة أو حتى البقاء.”
ويعود بنا مرتضى إلى “بدايات المسرح الإغريقي والروماني حيث كان الرجال يؤدون حتى الأدوار النسائية لكن مع تطور المسرح انتزعت المرأة حقها في الظهور على الخشبة ممثلة وكاتبة ومخرجة وسينوغرافية، وهو ما منح المسرح بعدا إنسانيا أكثر شمولا.”
ويعرّج بنا نحو المسرح النسوي أو الفيمينست ثياتر الذي ظهر كحركة تعطي المرأة صوتا مستقلا مثل أعمال سوزان سونتاغ وكاريل تشرشل. وفي العالم العربي بدأت المرأة منذ الستينات والسبعينات من القرن الماضي تثبت وجودها في المسرح، فهي لا تمثل ذاتها فقط بل تمثل نصف المجتمع وتجسد قضاياه، كما أن مشاركتها الإبداعية تضيف تنوعا في الرؤية الجمالية والفكرية وتكشف زوايا لم يكن الرجل يلتفت إليها بالعمق نفسه.
ويقول “باختصار مناصرة المرأة في المسرح ليست مجرد موضوع حقوقي بل هو قيمة جمالية وفكرية تعطي للفن المسرحي أفقا أوسع وتجعل الخشبة فضاءً للحرية والتعدد.”
الجسد لغة حرة

بالعودة إلى اختياره الاشتغال بأجساد ذكورية على عمل مهموم بالمشاكل الأنثوية، وبالتالي تجاوز الهوية الجسدية، وإلى أيّ مدى قد يكون المسرح فضاء للتحرر من القيود الجندرية؟ يقول مرتضى إن “الهوية الجسدية في المسرح الراقص من أهم المفاهيم التي يشتغل عليها المسرح المعاصر لأنها تجعل الجسد ليس مجرد أداة للتعبير بل كيان يحمل الذاكرة والثقافة والفكر، فالجسد بوصفه لغة في المسرح الراقص يصبح لغة وقادرا على نقل المعنى والإحساس بشكل مباشر. كما أن الحركة تكشف ما لا يُقال وتُجسّد ما هو مكبوت أو غائب في الخطاب اللفظي، والجسد في المسرح الراقص يحمل أيضا ذاكرة المجتمع والطقوس، والرقصات الشعبية هي أشكال للاحتفال وحتى الحركات اليومية، من هنا يصبح العرض مساحة لإحياء أو إعادة تأويل الثقافة الجمعية من خلال الجسد.”
وينظر المخرج للجسد أيضا على أنه “مسرح لصراع الهوية بين الذكورة والأنوثة، بين الحرية والرقابة، بين الجسد الطبيعي والجسد المُدرّب، والمسرح الراقص يعكس رحلة هذا الجسد نحو التحرر من القيود الاجتماعية والسياسية في التجارب الحديثة، ويُقدَّم الجسد كموضوع قائم بذاته ليس بالضرورة لتمثيل قصة بل لطرح سؤال وجودي من أنا؟ كيف أُعرّف نفسي من خلال جسدي؟
ويشدد على أن “الهوية الجسدية في المسرح الراقص ليست فقط تقنية حركة بل هي سردية بديلة تكتبها الأجساد بدلا من النصوص وتكشف أعماق الإنسان الفردي والجماعي.” سألته بين المخرج والراقص أين تجد نفسك؟ فأجاب “أجد نفسي صانعا للعرض لكي تكون الصورة واضحة أمامي لتجسيد المشهد بصورة واضحة جدا، ووضع خطة متكاملة لصناعة الصورة الفنية للمشهد.”
أما فيما يتعلق بعراقيته، بهويته التي صقلت في بلاد الرافدين، وبما يراه من أفكار وقضايا وحكايات يأمل أن ينقلها إلى العالم عبر خشبة المسرح، يقول مرتضى “في الحقيقة كل إنسان يحمل شحنة فكرية وجمالية غنية جدًا لأنها تربط بين الفن باعتباره وسيلة تعبير ورؤية وبين الإنسان كجوهر للحرية والوجود. أنا دائما أبحث عن وجودي كإنسان.”
ويقول إنه تمكن مقاربة أيّ فكرة عراقية في المسرح “من زوايا عدة، فتحرر الفنان يعني تحرر خياله وجسده وصوته من كل سلطة تكبح التعبير والإبداع، والفنان حين يتحرر لا ينتج فقط أعمالا جميلة بل يفتح آفاقا جديدة للوعي الجمعي، والإنسان هو في الحقيقة الكائن الباحث عن المعنى، والحرية شرط أساسي لوجوده الأصيل.”
ويضيف بالتأكيد “أنا دائما أبحث عن الحقيقة التي يعيشها الإنسان امرأة كان أو رجلا، وعن معالجة كل المشاكل التي تواجهها المرأة في كل المجتمعات… التحول في السنوات الأخيرة أصبح تحولا أيديولوجيا حيث أصبح الإنسان ممسوخا بطريقة غريبة جدا ووجدت الكثير من الأفكار السلبية حيث لتغيير الفكرة الأساسية للمجتمع يجب علينا أن نستمر ونستمر بالتفكير للوصول إلى نقطة أمل جديدة.”