نجاح الأفلام ذات الإنتاج الخاص يضاعف التحديات أمام السينما المدعمة
 
الرباط- تشهد السينما المغربية تحولا في معادلة التلقي والنجاح، حيث لم تعد الأعمال التي تُصنَّف ضمن “سينما النخبة” أو “سينما المؤلف” تحتكر القيمة الفنية، لأن الجمهور أكثر حضورا وتأثيرا في تحديد مصير الفيلم داخل القاعات. وبينما تحقق مجموعة من الأفلام الشعبية نجاحا كبيرا على مستوى شباك التذاكر، تتعثر أعمال أخرى رغم دعمها من المركز السينمائي المغربي (حكومي)، وهو ما يطرح تساؤلات حول معايير الدعم، وصدق التصنيفات، وجدوى استمرار بعض الأسماء في فرض الخطاب المكرر، والنتيجة واحدة: أفلام تفشل في المهرجانات وفي شباك التذاكر.
لقد برزت في الفترة الأخيرة مجموعة من الأفلام الناجحة جماهيريا، مثل “زعزوع” و“طاكسي بيض 2” لربيع شجيد، و“روتيني” للطفي أيت الجاوي، و“اللي وقع فمراكش يبقى فمراكش” لسعيد خلاف، و“حادة وكريمو” لهشام جباري، و“البوز” لديمنة بونعيلات، و“مايفراند” لرؤوف الصباحي، وهذه الأفلام رغم بساطتها، استطاعت أن تُعيد الجمهور المغربي إلى القاعات، وتثبت أن السينما القريبة من الناس، بقضاياهم ولهجاتهم وأمزجتهم، يمكن أن تكون مشروعا ناجحا على المستويين الفني والتجاري إذا صيغت بذكاء.
 
◄ أفلام مثل "بامو" و"الحنش" و"عايدة"، إدريس المريني دمجت البعد الثقافي والتاريخي بالكوميديا والدراما القريبة من الناس
بينما نجد عددا كبيرا من الأفلام المدعومة من المركز السينمائي المغربي، والتي تفشل فشلا ذريعا في شباك التذاكر وفي المهرجانات أيضا وبعضها لا يقبل إلا بالواسطة ولا ينجح يكون مثل أرنب السباق، ولا يحظى بأي اهتمام جماهيري ولا نقدي. والغريب أن أصحاب هذه الأفلام يصرّون على تصنيفها ضمن “سينما المؤلف” و”سينما الذوق الرفيع”، بينما هي في حقيقتها أعمال باردة، معزولة عن المجتمع، غارقة في التجريب الفج أو الإسقاطات الثقافية السطحية، وهي أفلام لا جمهور لها ولا حضور في المهرجانات الدولية، ورغم ذلك تستمر في الحصول على الدعم عاما بعد عام، في غياب المحاسبة أو التقييم الموضوعي للأثر والجودة.
وفي خضم هذا المشهد، لا بد من الإشارة إلى بعض النماذج الذكية لمخرجين استطاعوا أن يحققوا المعادلة الصعبة، أي الجمع بين الحس الفني والنَفَس الجماهيري، وبين عمق المعالجة وقابلية التلقي. نذكر هنا أفلاما مثل “بامو” و”الحنش” و”عايدة”، لإدريس المريني، التي دمجت البعد الثقافي والتاريخي بالكوميديا والدراما القريبة من الناس. كما نجد “في بلاد العجائب” و”على الهامش” لجيهان البحار، وهما نموذجان لسينما تُحترم فنيا وتنجح تجاريا.
وليعلم صناع السينما في المغرب أن تاريخ السينما العالمية صنعته الأفلام التجارية، وأن الشركات الخاصة التي راهنت على القصص الشعبية صنعت مجد هوليوود وبوليوود وحتى السينما المصرية، أما “سينما المؤلف” التي يتشدق بها البعض في الندوات والمحاضرات، فهي في المغرب إما اسم منسوخ، أو مسقَط، أو مسروق من تجارب لا تشبهنا، ومع ذلك لا تُثمر ولا تنجح، لأنها ببساطة بلا جذور ولا ملامح.
والمطلوب اليوم هو إعادة نظر في منظومة الدعم، وتشجيع سينما ذات هوية، تجمع بين الرؤية الإبداعية والذكاء التجاري، وتخرج من القوقعة النخبوية إلى رحابة التأثير المجتمعي، لأن السينما، كما قال صُنّاعها، لا تُقاس بالثرثرة، إنما بالفعل والوقع والخلود في الذاكرة.
 
◄ "في بلاد العجائب" و"على الهامش" لجيهان البحار، وهما نموذجان لسينما تُحترم فنيا وتنجح تجاريا
إن ما نناقشه هنا ليس تنظيرا أكاديميا داخل ندوة مغلقة حول “نظرية المؤلف” أو “استطيقا الصورة” وما إلى ذلك من المصطلحات التي تُردَّد كثيرا في اللقاءات الصحفية، والموائد المستديرة، والمهرجانات التي تُنظم لأجل الاحتفاء بصنّاع أفلام غالبا ما يكون منظموها زملاءهم أو أصدقاءهم، و لسنا في فضاء النخبة المغلقة، إنما نحن في صالات السينما التي يجلس فيها المواطن المغربي البسيط، ويدفع من ماله ليُشاهد شيئا يحاكي واقعه، يُضحكه، يُفاجئه، أو يُثير فيه سؤالا، فما يُعرض على الشاشة هو الفيصل، لا بلاغة المخرج في وصف تجربته “التجريبية” ولا مهارة الناقد في تجميل الرداءة بلغة ملساء.
لقد تحوّلت بعض المهرجانات في المغرب إلى مساحات للمجاملة، لا لتقييم العمل السينمائي، إذ نرى أفلاما لا تُفهم ولا تُحب ولا تُشاهد، لكنها تُكرم ويُمنح صناعها جوائز، ثم يُدعون لندوة بعنوان “اللغة السينمائية الجديدة”، أو “التحوّلات الجمالية في الفيلم المغربي المعاصر”، في حين أن أفلامهم لم تنجح، فما معنى أن نُشيد بلغة سينمائية لا يتواصل معها أحد؟ ما فائدة صورة جميلة لا تخدم قصة، ولا تعني شيئا للجمهور؟
السينما في جوهرها فن وصناعة، لا تكتفي بنوايا المخرج ولا بشهادات النقاد، فما لا يُشاهده الناس، لا يساوي شيئا اقتصاديا، ولن يصمد في الذاكرة الثقافية، والمشكلة أن هؤلاء الذين يفشلون على الشاشة، يستمرون في تدوير أسمائهم في لجان الدعم، ومجالس البرمجة، وصالونات التنظير، في حين يُحرم الكثير من المخرجين الشباب، أو المنتجين الطموحين، من فرص الدعم الحقيقي، لأنهم لا يمتلكون “الخطاب النقدي المناسب” أو العلاقات الكافية مع صناع القرار الثقافي، بينما نحن نتحدث عن واقع، لا وهم، وعن قاعات سينمائية نُشاهد فيها الإقبال على أفلام بسيطة، لكن صادقة، بينما يُعرض فيلم مدعوم بثلاثة ملايين درهم أمام أربعة أشخاص. هذا هو النقاش الحقيقي، لا صورة مشبعة بالأزرق ولا مونتاج “مفكك”.
وإذا توقفنا عند حصيلة السينما المغربية في علاقتها بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم دولي، فسنجد قائمة طويلة من الأفلام التي تم ترشيحها رسميا لتمثيل المغرب منذ 1977، وما يُثير الانتباه هنا هو أن العديد من هذه الأفلام لم تحقّق أي صدى جماهيري داخل المغرب، ولا حتى في المهرجانات العربية أو الدولية الكبرى، إلا إذا شاركت بالواسطة والعلاقات القائمة على المصالح، ومع ذلك ظل صانعوها يقدّمون أنفسهم بوصفهم مؤلفين ومنظرين للسينما الراقية، غير أن الواقع يقول شيئا آخر: هذه الأعمال لم تكن تجارية مربحة ولا فنية ذات صدى عالمي، والحقيقة أن واقع السينما المغربية اليوم يُفرغ مصطلح “سينما المؤلف” من محتواه، ويحوّله إلى غطاء فارغ يُستخدم للحصول على دعم المركز السينمائي المغربي.
 
    
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
        
      
     
        
      
    