"أرض الملائكة".. حين تتحول السينما إلى تلفزيون مُمسرح

المخرج المغربي رشيد فكاك يتابع بكاميرا مفككة قصة فتاة تبحث عن هويتها.
الثلاثاء 2025/10/21
رشيد فكاك يسحبه المسرح المصوّر من الشاشة الكبيرة

السينما أكثر فن جامع، يمكنه الاستفادة من مختلف الفنون الأخرى وتطويعها لبناء عوالمه، يصهرها في نسيجه أو يجعلها جزءا قويا من أجزائه، لكن هذه الوصفة لا تنجح دائما، إذ أحيانا نجد أفلاما تسقط في ما تحاول تطويعه من فنون، كأن نجد فيلما مثلا يغرق في أسلوب التلفزيون.

يظهر فيلم “أرض الملائكة” للمخرج رشيد فكاك كحالة نموذجية لتحويل أعمال تلفزيونية الطابع إلى أفلام سينمائية محسوبة على الفن السابع، وهذا النوع من الأعمال لا ينهض على لغة سينمائية رصينة بقدر ما يركن إلى شكل إنتاجي تقني يسمح له بالانتماء إلى خانة السينما من باب التصنيف الإداري لا من باب الإبداع الجمالي، ومتى كان الإبداع مرتبطا بالكلفة الإنتاجية للفيلم؟

ينطلق الفيلم من فكرة إنسانية حساسة تتعلق بالهوية والانتماء، لكنه سرعان ما يفقد عمقه الفني بسبب غياب الرؤية الإخراجية المتماسكة، وضعف البناء الدرامي، وغياب الاشتغال على الصورة باعتبارها لغة مستقلة، إذ تتراكم الثغرات التقنية، تتحول معها السينما إلى مسرح مصور أو دراما تلفزيونية مطولة.

عمل مفكك

الأحداث تسير على خطين متوازيين، خط الهوية المفقودة، وخط العلاقة الرمزية بين البطلة وحصان رافقها منذ الطفولة
الأحداث تسير على خطين متوازيين، خط الهوية المفقودة، وخط العلاقة الرمزية بين البطلة وحصان رافقها منذ الطفولة

يروي الفيلم قصة فتاة تدعى “عاليا”، في الرابعة عشرة من عمرها، تكتشف بالصدفة أن والديها ليسا هما البيولوجيان، وأنها وُجدت رضيعة قرب إحدى الحاويات. تهرب الفتاة من البيت لتبدأ رحلة مضطربة بحثا عن الجذور، وسط عالم قاسٍ لا يمنحها سوى فتات الأجوبة.

 تسير الأحداث على خطين متوازيين، خط الهوية المفقودة، وخط العلاقة الرمزية بين البطلة وحصان رافقها منذ الطفولة. وهذا الحصان يمثل لها نقطة الأمان الوحيدة في لحظة انكسارها، وتتحول علاقتهما إلى مرآة تكشف عن قلق الذات وضياع المعنى، فتعود “عاليا” إلى الحصان بعد مرضه، لتفهم أن الأسرة تتأسس على الحب والرحمة.

يعتمد الفيلم على تصوير لقطات نثرية متتالية لا تملك أي بعد تركيبي أو سردي يميز السينما عن التلفزيون. وتتعامل الكاميرا مع الفضاء على نحو وظيفي محدود، فلا تمنح للمكان أي حمولة رمزية أو درامية.

 كما تُلصق المشاهد ببعضها البعض بطريقة ميكانيكية أقرب إلى المونتاج التلفزيوني الذي يعتمد على نقل الحدث لا على صياغته الجمالية، بينما يُفترض في السينما أن تُعبّر بالصورة قبل الكلمة، وأن توظّف الضوء والزاوية والحركة لبناء الإحساس الداخلي، غير أن هذا الفيلم يتخلى عن هذه الإمكانات، ويكتفي بسرد مباشر، خالٍ من الإيحاءات البصرية.

لا وجود لفراغ سينمائي يتيح للمتلقي تأمل الصمت أو التقاط الإشارات، وإنما ثمة إغراق في الحوار والشرح غير المنطقي للأحداث، وهكذا تتحول الصورة إلى ناقل للخطاب غير المركب تركيبا صوريا متماسكا من ناحية تكوين اللقطات وتناغمها وانسجامها اللذين يجعلان الصورة تتكلم في النهاية.

يعتمد العمل على أداء تمثيلي يفتقر إلى إعداد الممثل للشاشة الكبيرة وليس خشبة المسرح أو التلفزيون، إذ يتبين أن الممثلين لم يخضعوا لإعداد خاص أمام الكاميرا، فحركاتهم وانفعالاتهم مبالغ فيها، ونبرات أصواتهم مسرحية مرتفعة لا تراعي حساسية الميكروفون ولا التقطيع البصري، فتحول الأداء بذلك إلى مسرح مصوّر، يقطع الصلة بين المشاهد والشخصية، بينما يفترض في الأداء السينمائي أن يكون اقتصادياً في الحركة والتعبير، وأن يبنى على نظرات، إيماءات، وصمت مقصود.

ما شاهدناه في هذا العمل يتناقض مع تلك القواعد، فيسقط في التصنع الخطابي، ويُفقد الشخصيات صدقيتها، فهي لا تعيش صراعاً داخلياً، وكأنها أُقحمت دون أي اشتغال على عمقها النفسي أو خلفيتها، فيفشل الفيلم في خلق أي انسجام جماعي بين الممثلين، إذ يُلاحظ أن كل ممثل يشتغل ضمن جزيرة خاصة به، من دون تفاعل درامي حقيقي مع الآخرين.

ويشارك في الفيلم عدد من الأسماء، كالممثلة الشابة نور شاكيري، في دور البطولة وكأول عمل لها، إلى جانب ربيع قاطي، فاطمة خير، عبدالله بن سعيد، سلمى سايري وسهر المعطاوي، مع سيناريو مشترك بين رشيد فكاك وعبدالله شاكيري.

حصل العمل على دعم من المركز السينمائي المغربي بقيمة 3.5 مليون درهم مغربي (قرابة 400 ألف دولار أميركي)، ويعرض الفيلم ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة إلى جانب 14 فيلماً روائياً طويلاً.

التلفزيون والسينما

العديد من صُنّاع الأفلام المغربية يسقطون في فخ التلفزيوني دون أن ينتبهوا إلى ذلك، إذ يكتفون بنقل أساليب السرد والإخراج التلفزيوني إلى الشاشة الكبيرة كما هي، فيُفرغون السينما من جوهرها البصري ويُحوّلونها إلى حدث تلفزيوني، ويغلب في هذه الأعمال الحوار الطويل والمباشر على الصورة، وتصبح الكاميرا أداة لتوثيق الحدث عوض توليد المعنى أو توسيع أفق التلقي.

العديد من صُنّاع الأفلام المغربية يسقطون في فخ التلفزيوني فيكتفون بنقل أساليب السرد والإخراج التلفزيوني دون انتباه
العديد من صُنّاع الأفلام المغربية يسقطون في فخ التلفزيوني فيكتفون بنقل أساليب السرد والإخراج التلفزيوني دون انتباه

ويتبين أن أغلب هؤلاء المخرجين قد تشكل وعيهم الجمالي داخل التلفزيون أو خشبة المسرح، خاصة عندما تُمنح الكلمة مركز القيادة ويُنظر إلى الصورة كعنصر مكمّل فقط، مكان بنية دلالية قادرة على حمل المعنى وإنتاجه، وهنا تتحول القاعة السينمائية إلى شاشة كبيرة لعمل تلفزيوني لا يحمل روح السينما ولا قوتها التعبيرية.

وتقوم اللغة السينمائية على فلسفة مختلفة جذريًا، فهي لا تكتفي بنقل الحدث وإنما تصوغه بصريًا، وتمنح للمشهد طاقة تعبيرية مستقلة عن الحوار، فتتحول الكاميرا هنا إلى أداة تفكير وتشكيل، تشتغل على الإيقاع، والزوايا، والضوء، والظل، والتقطيع الزمني والمكاني من أجل خلق تجربة حسية ووجدانية مكثفة كلغة سينمائية حية، فيصبح الصمت أكثر بلاغة من الكلام، وتتحول النظرة أو حركة الكاميرا إلى جملة درامية كاملة، وهذا ما يجعل السينما فنًا قائمًا على الإيحاء ولغة الصورة المتحركة.

بينما يقوم التلفزيون غالبًا على الشرح والثرثرة بين أخذ ورد، وهذا هو الفرق الجوهري الذي يضيع عند الكثير من المخرجين، الذين لم يتخلصوا من ثقل التلفزة والمسرح، فيسقطون في إنتاج أفلام تُحسب على السينما شكلًا، لكنها تُروى بلغة تلفزيونية مسطحة تفتقر إلى الحس البصري والعمق الفني.

وتوقف المخرج رشيد فكاك بنفسه عند تجربته السابقة في التلفزيون، مستحضراً عمله في فيلم “خيوط العنكبوت” الذي أنجزه في فترة إدارة الراحل نور الدين الصايل للقناة الثانية، موضحاً أن هذا الأخير كان يحمل رؤية واضحة لتطوير السينما المغربية من خلال الإنتاج التلفزيوني ودعم النصوص السينمائية الجريئة.

 وأشار إلى أن دعم الصايل ومساعدته التقنية والفنية كان لهما أثر كبير في إنجاز العمل رغم الصعوبات الإنتاجية، كما تحدث بعفوية عن العبارات الشعبية التي استلهمها من طفولته في البادية، والتي أصبحت جزءا من ذاكرة الجمهور، مؤكدا أن له مشاريع فنية جديدة في الأفق سيعلن عنها لاحقا.

وتطرح أمام هذه المعضلة مجموعة من التساؤلات الإشكالية التي تمس جوهر العلاقة بين الشكل الفني واللغة التعبيرية: فكيف يمكن لصانع فيلم أن يعبّر بلغة سينمائية وهو لم يتحرر بعد من سطوة التلفزيون أو المسرح؟ وهل يكفي امتلاك كاميرا وشاشة عرض لخلق عمل سينمائي حقيقي؟ أين يبدأ الفارق الجوهري بين أن تحكي قصة بصوت عالٍ على طريقة التلفزيون، وأن ترويها بصمت بصري عميق كما تفعل السينما؟

ثم إلى أي حد تتحمل مؤسسات التدريب السينمائي مسؤولية هذا الخلط، وهي التي غالبًا ما تفتح الباب أمام ممارسات تقنية سطحية مكان ترسيخ ثقافة بصرية جمالية؟ وهل يعود السبب في ذلك إلى ضعف الثقافة السينمائية لدى المخرجين، أم إلى ضغط السوق الإنتاجي الذي يفضل الوضوح التلفزيوني على الغموض الفني؟ وهل الإنتاج حقا هو من يسقط هذا المخرج أو ذاك في هذا الفخ أم أنه مجرد شماعة؟

8