"المرجا الزرقاء": مشاهد الصحراء تُخفي قصورا في الرؤية السينمائية‎

بحث عن الذات وسط جغرافيا الصحراء المغربية الشاسعة.
السبت 2025/10/25
فتى كفيف كان بطل الفيلم

يأخذنا المغربي داوود أولاد السيد في فيلمه "المرجا الزرقا" للتفكير في عمق العلاقة بين الرؤية والبصيرة، من خلال قصة طفل كفيف ينطلق في رحلة لاكتشاف الصحراء التي تتحول إلى فضاء رمزي يعكس حسّ المخرج الفلسفي الذي يمزج بين الواقعي والميتافيزيقي، ليجعل من الفيلم تجربة حسية تدعو المشاهد إلى التأمل أكثر مما تدعوه إلى التلقي المباشر.

تدور أحداث فيلم “المرجا الزرقا” للمخرج المغربي داوود أولاد السيد حول الطفل الكفيف يوسف الذي يعيش في قرية نائية وسط الصحراء مع جده علال وجدته وردية، حيث تهبه الحياة فرصة لاكتشاف العالم بطريقته الخاصة بعد أن يُهديه جده كاميرا للتصوير، لتصبح وسيلته في رؤية ما لا تُدركه العين. يتشبث يوسف بحلم السفر إلى البحيرة الزرقاء مع مجموعة من المكفوفين، في رحلة تمزج بين الخيال والبحث عن الذات وسط جغرافيا الصحراء الشاسعة.

الفيلم من بطولة محمد خيي وحسناء طمطوي ويوسف أقادير، ويشارك ضمن المسابقة الرسمية للمهرجان الوطني للفيلم بطنجة في دورته الخامسة والعشرين.

تجربة صادقة

المخرج يحاول أن يُقدّم رحلة يوسف بوصفها انتقالًا من العمى إلى النور، لكن الطفل لا يتطور داخل القصة

يفتتح الفيلم بطموح إنساني نبيل في نظر المتلقي، لكن سرعان ما يسقط في فخ الاستغلال العاطفي، حينما يبرز تكوين اللقطات على أنه تجربة إنسانية صادقة حول طفل كفيف يسعى لاستعادة بصره في رحلة عبر الصحراء، غير أن المتلقي قد يظن أن هناك احتفاءً بالإنسان وضعفه الجميل. يتحول الفيلم تدريجيًا إلى عرض عاطفي استعراضي يستغل واقع الإعاقة أكثر مما يحتفي به، فالمخرج اختار أن يسند الدور لطفل كفيف حقيقي وليس لممثل محترف، وهو خيار كان يمكن أن يمنح الفيلم صدقًا نادرًا، لكنه في الحقيقة كشف عن غياب الحس الأخلاقي في التوجيه، إذ بدا الطفل في العديد من المشاهد ضائعًا وسط متطلبات الإخراج المعقدة، ومرهقًا في أداء لا يليق بعمره ولا بظروفه.

حوّل المخرج إعاقة الطفل إلى أداة جمالية وإثارة تُستخدم لاستدرار الشفقة واستعطاف المتلقي. ونكتشف أن فكرة الفيلم أساسا تتعامل مع فقدان البصر كموضوع تقبله لجان دعم الأفلام وليس قضية إنسانية. الكاميرا تقترب من وجه الطفل، ومن عينيه الغائمتين، بطريقة تُظهره أكثر كرمز شكليٍّ للعمى لا كحالة إنسانية تحتاج فهمًا واحترامًا، كما حوّل المخرج الإعاقة إلى مجاز بصري مبتذل في حين كان من الممكن أن يجعلها منطلقًا للتفكير في الاختلاف أو الوعي، بينما استغل حالته الجسدية كوسيلة لإنتاج التأثر السهل، وهو ما يضع العمل في منطقة أخلاقية رمادية.

وتشعرنا المشاهد بأن الطفل يُمثّل ويُستَخدم كأداة رمزية جاهزة لتجسيد فكرة المخرج عن البصيرة، دون أن يمنحه صوتًا أو إرادة داخل الحكاية نفسها.

ويعود داوود أولاد السيد مرة أخرى إلى فضاء الصحراء الذي أصبح، في السنوات الأخيرة، الوجهة المضمونة للحصول على دعم المركز السينمائي المغربي، فالصحراء في السينما المغربية الحديثة تحوّلت إلى بطاقة مرور آمنة إلى لجان الدعم والمهرجانات، لأنها تحمل جاذبية بصرية وسهولة في التوظيف الرمزي وقضية وطنية.

ضرورة درامية

الفيلم يعجز عن تحقيق توازن واضح بين الصوت والصورة، إذ أن تكوين اللقطات يفتقر إلى الجاذبية البصرية
الفيلم يعجز عن تحقيق توازن واضح بين الصوت والصورة، إذ أن تكوين اللقطات يفتقر إلى الجاذبية البصرية

نرى في “المرجا الزرقا” أن الصحراء ليست خيارًا فنّيًا نابعًا من ضرورة درامية، وإنما هي اختيار براغماتي واضح، تُستخدم رمالها الصفراء وشساعتها الموحشة كوسيلة لاستدرار الإعجاب الجمالي والعاطفي، عوض عنصر عضوي من السرد، بينما أصبح اللجوء المتكرر إلى هذا الفضاء الجاف نوعًا من الكسل الإبداعي الذي يعوض غياب العمق في الكتابة بالاعتماد على المشهد الطبيعي الساحر كبديل عن البناء الدرامي الحقيقي.

وهكذا نكتشف أن الفيلم يستعطف لجنة المهرجان والجمهور معًا، وحين يقرر مخرج أن يتعامل مع طفل حقيقي يعاني من فقدان البصر، فهو يدخل منطقة شديدة الحساسية تتطلب احترامًا للحدود الإنسانية والنفسية، بينما المخرج يتعامل مع يوسف الكفيف كما لو كان رمزًا سينمائيًا لا كإنسان حقيقي.

وتُظهر اللقطات الطويلة الطفل وهو يتعثر أو يتلمس الطريق دون توجيه أو حماية واضحة أمام الكاميرا، وهذا يطرح سؤالا حول مدى وعي المخرج بمسؤوليته الأخلاقية تجاه ممثله الصغير، وتبرز المشاهد أحيانًا كوثائقي متعمد القسوة، يُصر على تصوير معاناة الجسد ليعرضها في ما يشبه الفرجة على الألم.

ويحاول المخرج أن يُقدّم رحلة يوسف بوصفها انتقالًا من العمى البصري إلى النور الداخلي، لكن المفارقة أن الطفل لا يتطور فعلًا داخل القصة، فغياب الإخراج الحساس والتمثيل الحقيقي يجعل كلّ التحوّل الروحي مجرد ادّعاء شعري.

تتحوّل الرحلة إلى مسابقة في استدراج المشاعر والصور البديعة، وتضيع الحقيقة الإنسانية في الزخرف. الرمزية الصوفية التي تتكرر في أعمال المخرج تفقد معناها عندما تُبنى على معاناة شخص حقيقي جُرِّد من حقه في الحماية الفنية والإنسانية، وعوض أن يسائل المخرج فكرة الإعاقة أو نظرة المجتمع إليها، يكرّسها؛ فالعمل يعيد إنتاج الصورة النمطية للشخص الكفيف كرمز للحكمة الغامضة والصفاء الروحي، وهي صورة تبالغ في المثالية وتختزل الإنسان في استعارة.

ويفقد المخرج داوود أولاد السيد في “المرجا الزرقا” جزءا من بوصلته البصرية التي ميّزت أعماله السابقة، إذ يغلب على الفيلم طابعٌ تأمليٌّ مفرط يجعل الإيقاع العام بطيئاً إلى حدّ الجمود. فبينما يوهمنا بأن فكرة الطفل الكفيف تفتح أفقاً بصرياً غنياً بالمفارقات، تنزلق التجربة نحو التكرار والرتابة، لأن المشاهد الصحراوية الجميلة بلا توتر دراميّ كافٍ، وهذا البطء في السرد يخلق مسافة باردة بين المتفرج والفيلم، فيتحول التأمل الذي أراده المخرج إلى تأمل بلا روح، أقرب إلى التمرين الشكلي منه إلى تجربة إنسانية.

ويعجز الفيلم عن تحقيق توازن واضح بين الصوت والصورة، إذ أن تكوين اللقطات يفتقر إلى الجاذبية البصرية، ويطغى الحوار والمناجاة على قوة الصورة. كما يُغفل المخرج في معالجته الدرامية جانب الصراع الداخلي للشخصيات، مكتفياً ببناء خارجي بسيط يعتمد على حضور الجد والطفل والبيئة القروية. والقصة التي تبدأ بوعدٍ عاطفي كبير تنتهي إلى مشاهد متقطعة بلا تطور واضح في الشخصيات أو في علاقتها بالعالم المحيط. إن اعتماد المخرج على بساطة مفرطة في السرد جعله يقع في فخ السطحية التي تناقض مفهوم العمق في البساطة الذي يؤمن به، فبين غياب العقدة وتشتت البناء الزمني، يبدو الفيلم وكأنه مقالة بصرية جميلة لكنها خالية من النبض الإنساني الذي يمنح السينما معناها. لقد أراد المخرج أن يصنع فيلمًا عن البصيرة، لكنه أغلق عينيه عن أسئلة الأخلاق الفنية والإنسانية التي يطرحها عمل كهذا.

9