"وشم الريح".. تأملات سينمائية في الهوية والجراح العائلية
اختارت المخرجة المغربية ليلى التريكي أن يجسد أحدث أفلامها "وشم الريح" حكاية إنسانية عن الفقد والمصالحة بلمسة أنثوية تجمع الواقعية بالحس الفني، أهلتها للفوز بجوائز مهمة، وإثارة نقاشات واسعة حول الثيمة العامة للفيلم الذي استعانت فيه بمواهب تمثيلية مهمة من المغرب مع مشاركة خاصة للممثل السوري النجم محمود نصر.
تتمحور أحداث الفيلم المغربي “وشم الريح” للمخرجة ليلى التريكي حول شخصية صوفيا، المصورة الفوتوغرافية التي تعيش في مدينة طنجة، وتكتشف بعد ثمانية وعشرين عاما أن والدتها ما زالت على قيد الحياة وتقيم في فرنسا، بعدما قضت حياتها وهي تعتقد أنها متوفاة استنادا إلى رواية والدها.
تبدأ صوفيا رحلة بحث مضنية عن حقيقة ماضيها، فتطرح أسئلة موجعة وتواجه أسرارا دفينة كانت محجوبة عنها طيلة حياتها. وتفتح هذه الرحلة بابا لاكتشاف الأجزاء الناقصة من هويتها، ومحاولة ترميم ذاتها الممزقة بين ذاكرة الأب وغياب الأم.
الفيلم من سيناريو ليلى التريكي، وبطولة وداد إلما، محمود نصر، الجيلالي فرحاتي، ونادية نيازي.
تطرح فكرة السيناريو بنية درامية متينة تفتح الباب أمام تأملات إنسانية واسعة، إذ تنطلق خيوط القصة من لحظة كشف صادمة تهز استقرار صوفيا الداخلي وتدفعها إلى رحلة محفوفة بالتساؤلات، فتتشكل الحكاية حول صراع داخلي يزداد حدة مع كل مشهد، إذ تصطدم صوفيا بحقيقة تخفي وراءها سنوات من الصمت والتعتيم. فتتخذ المخرجة من هذه اللحظة نقطة تحول سردي تضع المتفرج في قلب معاناة نفسية ممتدة إلى جميع أفراد العائلة. ويتجلى هذا البناء في مشاهد تعتمد على إيقاع متوازن يبرز تقلبات النفس البشرية بين الغضب والرغبة في الفهم.
ويتشكل العالم البصري للفيلم بدقة محسوبة، إذ تنسج المخرجة أجواء أنثوية رقيقة تمنح الصورة سلطة التعبير. وتتوزع المشاهد على فضاءات داخلية وخارجية تحمل طابعا حسيا يعكس حالات البطلة المتغيرة. ويأخذ الضوء والظل دورا سرديا يوازي الحوار المنطوق، ويصبح الإيقاع البصري وسيلة لتجسيد الصراع الداخلي بين الماضي والحاضر، بينما تهيمن لحظات الهدوء الطويلة على البنية الإخراجية فتمنح المتفرج مساحة للتأمل وتمنح الممثلين فرصة للتعبير عبر النظرات وحركة الجسد.
ويظهر عمق السيناريو في طريقة تعامله مع مفهوم الهوية، فيطرح سؤال الأصل ويتتبع الجذور النفسية للجراح العائلية. تدخل صوفيا في مواجهة مباشرة مع الماضي وتبدأ في تفكيك الرواية التي شكلت وعيها لسنوات. يتضح أن الأم لم تكن غائبة بالموت كما قيل لها، كانت ضائعة في عتمة الإدمان. تتحول رحلة البحث عن الحقيقة إلى مسار لإعادة تعريف الذات، إذ تمتد المواجهة إلى استعادة هوية ممزقة بين ثقافتين وانتماءين.
وتتخذ العلاقة بين الأم والابنة موقع القلب في الحبكة الدرامية. تبدأ العلاقة محاطة بجدار من الصمت والاتهام، ثم تتحول تدريجياً إلى مساحة للاعتراف والمكاشفة. فتنجح المخرجة في رسم مشهد المواجهة بلغة سينمائية عالية الحس، إذ تتقاطع الدموع مع الكلمات الصادقة وتنكشف الجراح الدفينة. ويتحول هذا اللقاء إلى لحظة تطهير نفسي تسمح للطرفين باستعادة جزء من إنسانيتهما المفقودة. وتتخذ حبكة السيناريو من هذه اللحظة ذروة عاطفية تتجاوز الخلافات وتلامس المعنى الإنساني للغفران.
يظهر الأداء التمثيلي الصادق والعفوي كأحد أعمدة قوة العمل. يقدم جيلالي فرحاتي شخصية الأب الممزق بين حماية ابنته وإخفاء الحقيقة، فيجسد التردد والخوف بنبرة صامتة تترك أثرا عميقا، بينما تمنح وداد ألما دور صوفيا طاقة عاطفية قوية تعبّر عن الألم والحنين معا. ترتسم ملامحها في كل لقطة وكأنها تنطق بما تعجز الكلمات عن قوله. فيتكامل الأداء مع اللغة الإخراجية في تشكيل عالم داخلي يفيض بالانكسار والبحث عن التوازن.
وينحاز السيناريو إلى نهاية هادئة تمنح الغفران مساحة تنبع من داخل الشخصيات العائلية، فيتحول الصمت إلى وسيلة للتعبير عن القبول، و الألم إلى جسر يعيد ربط ما انقطع. ويترك الفيلم أثره في المتفرج بفضل تماسك عناصره الفنية والدرامية، ويؤكد مكانة السينما المغربية في التعبير عن قضايا الهوية والذاكرة الإنسانية برؤية ناضجة تجمع بين الحس الواقعي والرؤية الجمالية الرفيعة
وعرضت المخرجة والسيناريست ليلى التريكي فيلمها الروائي الطويل الأول “وشم الريح” ضمن فعاليات الدورة الرابعة والسبعين من مهرجان برلين السينمائي الدولي، واستقطب الفيلم اهتمام النقاد والجمهور من خلال طرحه إشكالات الهوية والهجرة المتشابكة بين ضفتين.
المخرجة ليلى التريكي اختارت اسم "وشم الريح" ليعبّر عن أثر الحياة في الأرواح والندوب الخفية التي تتركها المنافي
وحكت التريكي قصة صوفيا المصورة الفوتوغرافية التي اكتشفت بعد ثمانية وعشرين عامًا أن والدتها على قيد الحياة وتعيش في فرنسا، بعد أن نشأت على اعتقاد أنها توفيت، ودفعها الاكتشاف إلى رحلة بحث مؤلمة عن حقيقة ماضيها وجزئها الغائب من هويتها.
واستندت المخرجة إلى أحداث واقعية مستوحاة من تجارب أسر مغربية خلال ستينات وسبعينات القرن الماضي، حيث عاشت بعض الأسر موجات هجرة واسعة وزواجات مختلطة، وانتهت بعض القصص بانفصال قاسٍ ترك الأبناء موزعين بين قارتين يبحثون عن جذورهم.
وواجهت التريكي صعوبات إنتاجية كبيرة وتأخرت مرحلة التصوير بسبب ضغوط مالية وظروف الجائحة، وأكملت الجزء الأول في المغرب منتصف عام 2021، بينما صوّرت الجزء الثاني في مدينة بوردو الفرنسية بعد عام من التوقف، وعملت على المونتاج والمعالجة التقنية حتى تمكنت من إنهاء الفيلم عام 2024.
واختارت المخرجة اسم “وشم الريح” ليعبّر عن أثر الحياة في الأرواح والندوب الخفية التي تتركها المنافي، واستعرض الفيلم تجربة المنفى عن الوطن والمنفى عن الذات، وسعى إلى تقديم شخصيات تحاول إعادة امتلاك ماضيها والتعايش مع جراحها، في رحلة تعبر عن العلاقة بين الذاكرة والهوية والألم والبحث عن الانتماء.
وقدمت ليلى من خلال الفيلم رؤية ناضجة تجسدت عبر سنوات من العمل في الوثائقيات والأفلام القصيرة، مؤكدة أن السينما كانت دائمًا المحرك الأول في حياتها، وأن “وشم الريح” يمثل قصيدة بصرية عن الإنسان في مواجهته مع الذاكرة والغربة، ونجح الفيلم في رسم تجربة سينمائية غنية بالرمزية الإنسانية والفنية.

واحتفى مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط في دورته الـ41 بالسينما العربية من خلال جوائزه الرفيعة، حينما استطاع الفيلم المغربي “وشم الريح” أن يفرض حضوره القوي وينتزع جائزة نور الشريف لأفضل فيلم عربي طويل، في إنجاز جديد للسينما المغربية التي تواصل ترسيخ مكانتها عربياً بفضل اشتغالها على القصص الإنسانية العميقة والرؤى الإخراجية الناضجة.
وجسد مهرجان الإسكندرية السينمائي، برئاسة الناقد الأمير أباظة، رحلة فنية تعبر المتوسط بحثا عن الأصوات الجديدة في السينما العربية، ليعلن في ختام دورته الحادية والأربعين عن نتائج مسابقة نور الشريف للفيلم العربي، التي تميزت بتنوعها وغناها الموضوعي والجمالي.
وتوَّج في هذه الدورة الفيلم اللبناني “دافنينو سوا” بجائزة سعيد شيمي لأفضل فيلم وثائقي، تقديراً لمعالجته المبتكرة للذاكرة الجماعية، فيما تُمنح جائزة الجمعية المصرية لكتاب ونقاد السينما للفيلم الإماراتي “اتصال” الذي لفت الأنظار بجرأته الموضوعية. غير أن المفاجأة السارة جاءت من المغرب، حيث توّج “وشم الريح” بجائزة أفضل فيلم عربي طويل، مؤكداً أن السينما المغربية قادرة على المنافسة الإبداعية في كبرى المهرجانات العربية والدولية.
لحظات الهدوء الطويلة تهيمن على البنية الإخراجية فتمنح المتفرج مساحة للتأمل وتمنح الممثلين فرصة للتعبير عبر النظرات وحركة الجسد
وولدت ليلى التريكي في حي أكدال بمدينة الرباط وسط عائلة تُقدر الفن. استمعت منذ طفولتها إلى موسيقى البلوز والروك والموسيقى العربية، وتلقت تعليمها في مدرسة شبه دولية باللغتين الفرنسية والعربية. بدأت تعلم الصولفيج والعزف على البيانو ومارست رقص الباليه الكلاسيكي. قربها من قاعة سينما أكدال جعلها تشاهد العديد من الأفلام، وتكوّن لديها وعي نقدي مبكر، غير أن مسارها الدراسي وُجه نحو العلوم التجريبية، الأمر الذي جعلها تبذل جهدًا لإقناع أسرتها بتغيير طريقها نحو الفن.
ونجحت في الالتحاق بمدرسة الإعلام معتقدة أن هذا الطريق سيقربها من المجال الفني. وأدركت سريعًا أن هذا المجال لا يُشبع شغفها الحقيقي. فقررت التقدم لامتحان المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي، وتمكنت من اجتيازه بنجاح وتصدرت قائمة المقبولين. واختارت في البداية التمثيل لكنها لم تقتنع بأدائها، فانتقلت إلى تخصص السينوغرافيا، وأنهت دراستها متفوقة كأولى دفعتها بفضل بحثها الأكاديمي الذي حظي بتقدير لجنة التحكيم.
وساهمت في السينما المغربية كمساعدة سكريبت في أفلام منها “علي، ربيعة والآخرون” لأحمد بولان و”علي زاوا” لنبيل عيوش، ثم كمساعدة مخرج في “ذاكرة معتقلة” لجيلالي فرحاتي. والتحقت لاحقًا بالمدرسة العليا للمهن البصرية والصوتية في باريس لتطوير مهاراتها في الكاميرا والمونتاج والتسجيل الصوتي.
وعادت إلى المغرب وعملت لمدة ثمانية أشهر في القناة الثانية، لكن التجربة لم تدم طويلًا. وأخرجت أول أفلامها القصيرة الذي فاز بجائزة بميلانو في إيطاليا، وعُرض في الفعاليات الموازية لمهرجان البندقية. وشارك الفيلم في مهرجانات دولية كأوبرهاوزن وأوسلو ومهرجان الفيلم القصير المتوسطي بطنجة.
وشرعت بعد هذا النجاح في التحضير لأول أعمالها التلفزيونية “جبروت”، وهو عمل درامي تاريخي تناول الغزوات في المناطق البعيدة عن السلطة المركزية بالمغرب، وعُرض على القناة الأولى خلال شهر رمضان. وقدمت لاحقًا مسلسل “ماريا نصار” وفيلمًا بوليسيًا بعنوان “مطاردة”. وساهمت خلال مسيرتها في عدد من الأعمال التي شكلت جزءًا من تطور الدراما المغربية، منها: “جبروت”، “مطاردة”، “ماريا نصار”، “الغريب”، “الراية البيضا”، “طاكسي 2.0″، “وشم الريح”.