وساطة أم وصاية: الدور الأميركي – الأردني في معادلة الجنوب السوري
منذ الإعلان عن خارطة الطريق الجديدة لمعالجة أزمة السويداء في جنوب سوريا، برعاية أميركية وأردنية، عاد السؤال القديم – الجديد إلى الواجهة: هل يشكّل هذا التدخل دعما لمسار وطني سوري يفتح الباب أمام مصالحة داخلية واستقرار إقليمي، أم أنه يكرّس وصاية إقليمية ودولية على القرار السوري، بما يعيد إنتاج نماذج مألوفة في المنطقة لعبت فيها القوى الخارجية دور “الضامن” أو “الوصي” على مسارات الحل؟ هذا السؤال لا يطرح فقط من زاوية اللحظة الراهنة، بل من خلال مقارنات تاريخية مع تجارب أخرى في المشرق العربي: لبنان بعد اتفاق الطائف عام 1989 والعراق بعد الغزو الأميركي عام 2003. ففي الحالتين، كان التدخل الخارجي حاسما في رسم ملامح النظام السياسي الجديد، لكنه حمل في طياته بذور أزمات طويلة الأمد.
من الناحية النظرية، يمكن النظر إلى الدور الأميركي – الأردني باعتباره وساطة ضرورية في لحظة انتقالية معقدة. فسوريا الخارجة من حرب أهلية طويلة وسقوط نظام الأسد تواجه تحديات هائلة: تفكك مؤسسات الدولة، انقسامات مجتمعية عميقة، تدخلات إقليمية متشابكة، ووجود إسرائيلي مباشر في الجنوب. في مثل هذا السياق، يصعب تصور أن القوى المحلية وحدها قادرة على إنتاج تسوية مستقرة من دون دعم وضمانات خارجية. الأردن، بحكم الجغرافيا والديموغرافيا، معني مباشرة بأمن الجنوب السوري. حدوده الطويلة مع محافظة درعا والسويداء جعلته عرضة لتدفقات اللاجئين، وتهديدات التهريب والسلاح، واحتمال انتقال الفوضى. لذلك، فإن مشاركته في رعاية خارطة الطريق ليست مجرد مبادرة دبلوماسية، بل تعبير عن مصلحة أمنية وجودية. أما الولايات المتحدة، فهي تنظر إلى الملف السوري من زاويتين: الأولى مرتبطة بأمن إسرائيل وضمان عدم تحوّل الجنوب السوري إلى منصة تهديد، والثانية مرتبطة بإعادة صياغة التوازنات الإقليمية بعد سقوط الأسد، بما يمنع تمدد نفوذ خصومها التقليديين. ومن هنا، فإن رعايتها للتفاهمات الأمنية بين دمشق وتل أبيب ليست مفاجئة، بل استمرار لنهجها التاريخي في إدارة الصراع العربي – الإسرائيلي عبر ترتيبات أمنية جزئية.
السويداء اليوم ليست مجرد محافظة سورية مضطربة، بل مرآة لمستقبل سوريا بأكملها. فإذا تحولت خارطة الطريق إلى نموذج لمصالحة وطنية حقيقية، فقد تفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة على أسس جديدة
لكن الوجه الآخر لهذه “الوساطة” هو شبهة الوصاية. فحين تُصاغ خارطة طريق داخلية بيد أطراف خارجية، وحين يُربط الاستقرار المحلي بتفاهمات أمنية مع إسرائيل برعاية أميركية، يصبح السؤال مشروعا: أين القرار الوطني السوري؟ التجربة اللبنانية بعد الطائف تقدّم مثالا صارخا. فالاتفاق الذي أنهى الحرب الأهلية جاء برعاية سعودية – أميركية، لكنه منح سوريا دور “الوصي” على لبنان لعقد ونصف. صحيح أن الطائف أوقف الحرب وأعاد بناء مؤسسات الدولة، لكنه كرّس نظام محاصصة طائفية هشّة، وأبقى القرار اللبناني مرتهنا للتوازنات الإقليمية والدولية. أما العراق بعد 2003، فقد شهد شكلا آخر من الوصاية: الاحتلال الأميركي المباشر الذي أسقط النظام وكتب دستورا جديدا، لكنه أطلق في الوقت نفسه ديناميات تفكك طائفي وعرقي ما زالت بغداد تعاني منها حتى اليوم. التدخل الخارجي هنا لم يكن مجرد “ضمانة”، بل كان إعادة هندسة كاملة للمشهد السياسي والاجتماعي، مع نتائج كارثية على المدى الطويل. في الحالتين، كان العامل المشترك هو غياب القدرة الوطنية على إنتاج تسوية ذاتية، ما فتح الباب أمام الخارج ليملأ الفراغ. لكن الثمن كان باهظا: سيادة منقوصة، مؤسسات هشة، وصراعات مؤجلة.
اليوم، تبدو سوريا وكأنها تقف بين النموذجين اللبناني والعراقي. فمن جهة، هناك محاولة لرسم خارطة طريق داخلية بدعم خارجي، على غرار الطائف. ومن جهة أخرى، هناك تدخل عسكري مباشر لإسرائيل في الجنوب، يذكّر بواقع الاحتلال الأميركي للعراق. السويداء، بما تحمله من رمزية دينية واجتماعية، قد تتحول إلى “مختبر” لهذا النموذج الجديد: مصالحة محلية برعاية دولية، مع ترتيبات أمنية إقليمية. لكن الخطر يكمن في أن تتحول هذه المصالحة إلى مجرد واجهة، بينما يبقى القرار الحقيقي بيد القوى الخارجية.
التمييز بين الوساطة والوصاية ليس مجرد جدل لغوي، بل هو جوهر النقاش حول مستقبل سوريا. الوساطة تعني أن الخارج يساعد الداخل على التوصل إلى تسوية، لكنه يترك له حرية القرار والتنفيذ. أما الوصاية، فتعني أن الخارج يفرض التسوية ويشرف على تنفيذها، بما يحوّل الداخل إلى تابع. في الحالة السورية، المؤشرات متناقضة. من جهة، هناك حديث رسمي عن “سيادة سوريا وسلامة أراضيها”، وعن “مصالحة داخلية يشارك فيها أبناء المحافظة بكل مكوناتهم”. ومن جهة أخرى، هناك تفاهمات أمنية تُصاغ في دمشق وباريس وباكو، بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين برعاية أميركية. هذا التناقض يعكس المعضلة الأساسية: كيف يمكن لسوريا أن تستعيد سيادتها بينما مستقبل الجنوب مرهون بتفاهمات مع إسرائيل، ومصير السويداء مرتبط بآلية ثلاثية أميركية – أردنية – سورية؟
إذا كان من درس يمكن استخلاصه من لبنان والعراق، فهو أن أي تسوية تُفرض من الخارج من دون توافق وطني داخلي عميق ستبقى هشة
إذا كان من درس يمكن استخلاصه من لبنان والعراق، فهو أن أي تسوية تُفرض من الخارج من دون توافق وطني داخلي عميق ستبقى هشة. الطائف أوقف الحرب لكنه لم يبنِ دولة قوية. الاحتلال الأميركي للعراق أسقط الدكتاتورية لكنه فتح أبواب الفوضى. في سوريا، الخطر أن تتحول خارطة الطريق إلى مجرد “هدنة” مؤقتة، من دون معالجة جذور الأزمة: العدالة الانتقالية، إعادة بناء الثقة بين المكونات، إصلاح المؤسسات الأمنية، وضمان مشاركة حقيقية في القرار السياسي. ولكي تكون الوساطة الأميركية – الأردنية دعما لمسار وطني لا وصاية عليه، لا بد من شروط واضحة: شفافية كاملة في صياغة وتنفيذ خارطة الطريق، إشراك المجتمع المحلي في السويداء بشكل فعلي لا رمزي، ضمانات دولية متوازنة عبر الأمم المتحدة لا عبر طرف واحد، ربط التفاهمات الأمنية بمسار سياسي شامل لا أن تكون بديلا عنه، والتزام واضح بجدول زمني لإنهاء أي وجود عسكري أجنبي غير مشروع، بما في ذلك الإسرائيلي.
السويداء اليوم ليست مجرد محافظة سورية مضطربة، بل مرآة لمستقبل سوريا بأكملها. فإذا تحولت خارطة الطريق إلى نموذج لمصالحة وطنية حقيقية، فقد تفتح الباب أمام إعادة بناء الدولة على أسس جديدة. أما إذا بقيت مجرد تفاهمات أمنية برعاية خارجية، فإنها لن تكون سوى نسخة جديدة من الطائف أو العراق: استقرار هش، سيادة منقوصة، وأزمات مؤجلة. يبقى السؤال مفتوحا: هل نحن أمام وساطة تسند السوريين في رحلة استعادة وطنهم، أم أمام وصاية جديدة تُعيد إنتاج التبعية؟ الجواب لن تحدده واشنطن أو عمّان وحدهما، بل قدرة السوريين أنفسهم على تحويل هذه اللحظة إلى فرصة لبناء دولة سيّدة، عادلة، وقادرة على الصمود.