هل تعود الدولة الليبية يومًا إلى مسارها الطبيعي

ليبيا دفعت ثمنًا باهظًا: آلاف القتلى ومئات الآلاف من النازحين واقتصاد منهار ومجتمع ممزق. لا يمكن أن يستمر هذا النزيف والانتخابات المقبلة قد تكون الفرصة الأخيرة للإنقاذ.
الجمعة 2025/10/24
ليبيا أمام مفترق طرق: إما طريق الدولة أو الفوضى الدائمة

منذ سقوط نظام معمر القذافي عام 2011، لم تعرف ليبيا يومًا من الاستقرار الكامل. بلد واسع المساحة، غني بالثروات النفطية، قليل السكان، لكنه غارق في الانقسام السياسي والعسكري، وممزق بين حكومتين متنافستين، وبرلمانين متنازعين، وميليشيات متشابكة الولاءات. ومع كل جولة من المفاوضات، كانت الآمال ترتفع ثم تتبخر، حتى بات الليبيون أنفسهم يتساءلون: هل يمكن أن تعود الدولة يومًا إلى مسارها الطبيعي؟

اليوم، ومع اقتراب استحقاق انتخابي جديد، يعود السؤال بقوة، فالانتخابات التي طال انتظارها ليست مجرد محطة إجرائية، بل لحظة فاصلة: إما أن تتحول ليبيا إلى دولة ذات مؤسسات وسيادة، أو أن تستمر كمساحة مفتوحة للتجاذبات الإقليمية والدولية. في هذا السياق، تبدو الدعوة إلى التفكير في الفرصة الأخيرة لإنقاذ الدولة الليبية والحيلولة دون أن تتحول إلى أزمة دائمة أكثر من ضروري

المشهد الليبي معقد لكنه في جوهره يدور حول معركة السيادة فمنذ 2011 لم يعد القرار الليبي خالصًا لليبيين… كل طرف يسعى إلى حماية مصالحه والنتيجة أن ليبيا تحولت إلى ساحة صراع بالوكالة

المشهد الليبي معقد، لكنه في جوهره يدور حول معركة السيادة. فمنذ 2011، لم يعد القرار الليبي خالصًا لليبيين. التدخلات الخارجية تعددت: تركيا أرسلت قوات ومستشارين، روسيا حضرت عبر مجموعة فاغنر، الولايات المتحدة وأوروبا تدخلتا عبر الضغوط الدبلوماسية، وجيران ليبيا في مصر وتونس والجزائر يتابعون بقلق ما يجري على حدودهم. كل طرف يسعى إلى حماية مصالحه، لكن النتيجة أن ليبيا تحولت إلى ساحة صراع بالوكالة، يدفع ثمنها المواطن الليبي البسيط.

هذا المواطن هو الضحية الأولى. فبينما تتنازع الحكومات على الشرعية، يعيش الليبيون أزمات معيشية خانقة: انقطاع الكهرباء، انهيار الخدمات الصحية، تراجع قيمة الدينار، وغياب الأمن. النفط، الذي كان يفترض أن يكون نعمة، تحول إلى لعنة، إذ أصبح ورقة مساومة بين القوى المتصارعة. الموانئ تُغلق وتُفتح وفق موازين القوة، والعائدات تُوزع وفق الولاءات، لا وفق حاجات الشعب.

في ظل هذا الواقع، تبدو الانتخابات المقبلة كفرصة أخيرة. لكنها ليست مجرد صناديق اقتراع، بل اختبار لقدرة الليبيين على تجاوز الانقسام. فالانتخابات وحدها لا تكفي إذا لم تُبنَ على توافق سياسي يضمن قبول نتائجها. التجربة السابقة في كانون الأول/ديسمبر 2021 لا تزال ماثلة في الأذهان، حين أُلغيت الانتخابات قبل أيام من موعدها بسبب الخلافات حول القوانين والمرشحين. تكرار السيناريو نفسه هذه المرة سيكون كارثيًا، لأنه سيقضي على ما تبقى من ثقة الناس في العملية السياسية.

الزاوية التي يجب أن ننظر منها إلى الانتخابات ليست فقط زاوية إجرائية، بل زاوية سيادية. فالمعركة الحقيقية هي استعادة القرار الوطني من أيدي القوى الخارجية. لا يمكن لليبيا أن تبني دولة مستقرة إذا ظل قرارها مرتهنًا لعواصم أخرى. الانتخابات، إذا جرت بشفافية وقبول متبادل، يمكن أن تكون بداية لاستعادة هذه السيادة. لكنها تحتاج إلى ضمانات داخلية وخارجية: داخلية عبر توافق وطني بين القوى السياسية والقبلية، وخارجية عبر التزام المجتمع الدولي باحترام نتائجها وعدم استخدامها كورقة ضغط.

هل يملك الليبيون الشجاعة ليضعوا مصلحة وطنهم فوق مصالحهم الضيقة؟ وهل يملك المجتمع الدولي الحكمة ليدعم خيار السيادة بدلًا من تغذية الانقسام؟

المنطقة العربية تتابع الملف الليبي بقلق، لأن استقرار ليبيا ليس شأنًا داخليًا فقط. انهيار الدولة الليبية يفتح الباب أمام تهديدات تمتد من الساحل الإفريقي إلى المتوسط: الإرهاب، الهجرة غير النظامية، تهريب السلاح والمخدرات. لهذا، فإن إنقاذ ليبيا ليس مصلحة ليبية فقط، بل مصلحة عربية وإقليمية.

لكن السؤال يبقى: هل يملك الليبيون الإرادة السياسية لتجاوز خلافاتهم؟ التجربة تقول إن الانقسام عميق، لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب قادرة على النهوض حين تدرك أن البديل هو الفوضى الدائمة. ليبيا اليوم أمام مفترق طرق: إما أن تختار طريق الدولة، أو أن تبقى رهينة الميليشيات والتدخلات.

ما أكتبه ليس دعوة إلى التفاؤل الساذج، بل إلى الواقعية. لا أحد يتوقع أن تحل الانتخابات كل مشاكل ليبيا بين ليلة وضحاها. لكن يمكنها أن تكون بداية مسار جديد، إذا وُجدت الإرادة السياسية، وإذا أدركت القوى المتصارعة أن استمرار الانقسام يعني ضياع الدولة إلى الأبد.

لقد دفعت ليبيا ثمنًا باهظًا خلال السنوات الماضية: آلاف القتلى، مئات الآلاف من النازحين، اقتصاد منهار، ومجتمع ممزق. لا يمكن أن يستمر هذا النزيف إلى ما لا نهاية. الانتخابات المقبلة قد تكون الفرصة الأخيرة لإنقاذ الدولة، وإذا ضاعت، فإن البديل سيكون الفوضى المستدامة.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يملك الليبيون الشجاعة ليضعوا مصلحة وطنهم فوق مصالحهم الضيقة؟ وهل يملك المجتمع الدولي الحكمة ليدعم خيار السيادة بدلًا من تغذية الانقسام؟ الإجابة ستحدد ليس فقط مستقبل ليبيا، بل مستقبل المنطقة كلها.

6