منشورات غاليمار تحتفي بمئوية جان دورميسون

كاتب تماهى مع الإنسان فيه بطريقة سلسة وطبيعية إلى حد غريب.
الأحد 2025/07/06
الكاتب لم يعتبر نفسه عبقريا ولا حتى مبدعا مثل أسلافه

هناك كتّاب لم يأخذوا الأدب على أنه صراع لوجود ذواتهم بأي وسيلة كانت، بل كانت كتاباتهم تفاعلا مع العالم والإنسان وطرحا جماليا وفكريا لا يحتاج إلى فرضه على أحد، وهذا ما حقق لهم المشروع الأدبي المفعم بالصدق والذي يأسر قراءه دون أن يسعى إلى ذلك برعونة، وهكذا كان مشروع الكاتب الفرنسي جان دورميسون الذي تحتفي فرنسا بمئويته بإصدار مختارات له.

كان ذلك صبيحة الجمعة الثامن من ديسمبر 2017، في ساحة قصر الأنفاليد بباريس. ودعت فرنسا وعلى رأسها رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون كاتبا لم تختلف الساحة الأدبية والفنية من أقصى يسارها إلى أقصى يمينها على براعته اللغوية وبهجة حياته وضحكته الصادقة الطيبة، هكذا ودعت فرنسا الأكاديمي جان دورميسون الذي ولد في باريس في السادس عشر من يونيو 1925 وتوفي بسكتة قلبية بين ليلة الرابع والخامس من ديسمبر 2017 في بيته بمدينة نووي سور سين، عن عمر يناهز الاثنين والتسعين عاما.

اتفق الجميع على أن مراسم الجنازة جمعت بين النبل والجمال، حيثُ كان خطاب رئيس الجمهورية مشابها للفقيد، جامعا بين الفطنة والبساطة وحب الحياة إلى آخر لحظة، حتى إن أعماله، التي صدرت لأول مرة سنة 2018 في جزأين اثنين في سلسلة “لا بلياد” الشهيرة عند منشورات غاليمار، ترى اليوم النور من جديد على شكل مجلدين في غلاف فاخر تظهر على يمينه صورة للكاتب وعلى يساره رسم لمدينة البندقية التي طالما زارها وكتب عنها جان دورميسون.

الكتابة بعد الـ25

هكذا إذن تصدر هذه الأعمال للاحتفال بمئوية الكاتب وهي في الحقيقة أعمال مختارة لا كاملة لأن للفقيد جان دورميسون أكثر من أربعين مصنفا بين الرواية والمقالة الفكرية والفلسفية والكتابة التاريخية والبحث الأدبي.

تحتوي هذه الأعمال على أربعة أعمال مختارة في المجلد الأول (“إلى اللقاء وشكرا”، 1966؛ “عظمة الإمبراطورية”، 1971؛ “بإذن الله”، 1974؛ “قصة اليهودي التائه”، 1991)، وعلى ستة أعمال أخرى في المجلد الثاني (“المتشرد الذي يمر تحت مظلة مثقبة”، 1974؛ “جمارك البحر”، 1994؛ “انظروا كيف نرقص”، 2001؛ “إنه أمر غريب في النهاية هذا العالم”، 2010؛ “كمثل نشيد أمل”، 2014 وأخيرا “سأقول رغم كل شيء أن هذه الحياة كانت جميلة”، 2016).

قدم للمجلدين مارك فومارولي (1932 – 2020) وهو جامعي بارز درس في السوربون وفي كولاج دي فرانس، كان زميل جان دورميسون في الأكاديمية الفرنسية. كما تكبد مهمة نشر المجلدين الباحث بيرناردوغو (مولود سنة 1955)، والذي يجمعه بجان دورميسون شغف بأعمال وحياة الكاتب والرحالة الكبير فرانسوا رينيه دوشاتوبريان (1768 – 1848).

كما تضمنت هذه الأعمال مقدمة من تسع صفحات بقلم جان دورميسون نفسه، تبدأ بهذه الكلمات البسيطة “طوال حياتي، درتُ حول الكتب. وحول الغلاف الأبيض لمنشورات غاليمار. في أواخر شبابي، قبل ما يزيد قليلا عن خمسين عاما، كان معظمها قد تجاوز الخمسين بقليل، وقد وُضعت، بعد القديس سان توما الأكويني، في رقم 5 من شارع سيباستيان بوتين، الذي أصبح منذ ذلك الحين رقم 5 من شارع غاستون غاليمار، وتمكنت من تغيير عنوانها دون أن تتحرك قيد أنملة، وسمت شارعا باسمها، تسكن فيه بمفردها. هناك، على عتبة كومة من السلالم والطوابق النصفية حيث كانت تختبئ أنصاف آلهة، تصلني عنهم شائعات تملؤني بالرعب، وضعتُ في صباح جميل، أو بالأحرى في مساء جميل، بين يدي الشابة المترفعة والمقدسة التي ترد على الهاتف شيئا لا يُوصف يشبه المخطوطة”.

بطريقة طبيعية وسلسة يروي لنا جان دورميسون قصة كل كاتب يافع يبحث عن قفل الباب ليثبت المفتاح ويتمكن من الولوج إلى عالمه المفضل، عالم أحلامه، عالم الكتابة والكتب. لكن، مصير هذا الرجل مختلف تماما، فهو يعترف بأنه لم يكتب سطرا واحدا قبل سن الخامسة والعشرين وأنه في المقابل كان يقرأ كل ما تعترضه يداه وعيناه، من وصفة الطبيب وصولا إلى الرائد الرسمي للبلاد مرورا بلوائح الطعام على أبواب المطاعم.

عكس أغلب الكتاب الفرنسيين، لم يكتب جان دورميسون أمثولات ولا روايات ولا مقالات ولا تراجيديات كلاسيكية ولا حتى قصائد إلى والدته. بل كان يعيش في طفولته وشبابه مع أبطال كثر مثل أرسين لوبين وأتوس، بورتوس، أراميس ودارتانيان “الفرسان الثلاثة”، وكذلك مع جوليان سوريلوفابريس دال دونغو، كما كان يعيش مع “إلياذة” و”أوديسة” هوميروس، مع الحبيب فيرجيل، كما أنه يعترف بغبطته عند قراءة “ألف ليلة وليلة”.

عالم النشر والكتب

في نص مقدمته، يروي لنا بصدق وسحر لا مثيل لهما، قصته مع عالم الأدب، ويعترف لنا كيف أنه يشبه نفسه “بروائي لم يكتب رواية” وبأنه لا يعتبر نفسه عبقريا ولا حتى مبدعا مثل أسلافه أمثال لاكلو، شاتوبريان، هوغو، ستيندال، فلوبير، بروست، جويس، والس وبورخيس.

 كما أنه يروي لنا أسرارا ممتعة عن عالم النشر والكتاب، عن منشورات غاليمار، جوليار وعن أول لقاء له مع رجل سيلعب دورا مهما في حياته: “كان غاستون غاليمار يتربع على العرش بجلال، ساكنا وصامتا. في أحد الأيام، رأيتُ فتى في العشرين من عمره تقريبا، ربما أكبر أو أصغر بقليل، يرتدي بنطالا قصيرا، إن لم أكن مخطئا، صامتا كجده، وكان يشبه تانتان إلى حد ما، وكذلك ملاكا من ملائكة رافائيل: كان أنطوان غاليمار”.

وفي نهاية نصه العجيب، يكتب لنا جان دورميسون “ثم، في أحد الأيام، رن هاتف منزلي. أراد أنطوان غاليمار مقابلتي. ذهبتُ إلى رقم 5 شارع سيباستيان بوتين، وهو الآن شارع غاستون غاليمار، حيثُ ولجتُ، وقلبي يخفق بشدة، قبل أكثر من نصف قرن. دعاني إلى الدخول إلى سلسلة لا بلياد. وهكذا اكتمل رسم الدائرة”.

ولمن لا يعرفها، تعتبر سلسلة “لا بلياد” أهم وأفخر سلسلة أدبية فرنسية وربما عالمية لأنها لا تعتني بالأدب الفرنسي وحسب، بل بأمهات الكتب منذ العصور القديمة وعبر نصوص مترجمة من قبل أخصائيين وكتاب مرموقين يسهرون على تحقيق المخطوطات وعلى تصميم المقدمات الضاربة في الدقة والهوامش التي تضفي على النصوص والكتب مقروئية أكثر.

علاوة على ذلك، تتسم هذه السلسلة بنوعية ورقها الإنجيلي الرهيف والقوي في نفس الوقت، وبأغلفتها الجلدية المرصعة بماء الذهب عيار 23 قريطا. كما أن لكل حقبة تاريخية لونا خاصا: لون هافانا لأدب القرن العشرين، الأخضر الزمردي لأدب القرن التاسع عشر، الأزرق لأدب القرن الثامن عشر، أحمر البندقية لأدب القرن السابع عشر، الأزرق الكورنتي لأدب القرن السادس عشر، الأرجواني لأدب العصور الوسطى والأخضر العتيق للأدب القديم.

توجد كذلك ألوان خاصة بأعمال أخرى: الرمادي للنصوص المرجعية للأديان التوحيدية الرئيسية؛ لون الأحمر الملقب بتشرشل للمختارات الأدبية، بالإضافة إلى الطبعة الأولى من كتاب “الكوميديا ​​الإنسانية” لبلزاك (الطبعة الحالية تتبع نظام الألوان المعتاد للقرن التاسع عشر)؛ وكذلك أحيانا: الأسود للطبعة الأولى من كتاب “مذكرات سان سيمون” (الطبعة الحالية تتبع نظام الألوان المعتاد للقرن الثامن عشر)، والأزرق الكورنتي للطبعة الثانية من كتاب “الكوميديا ​​الإنسانية” لبلزاك (لأن الطبعة الحالية تتبع نظام الألوان المعتاد للقرن التاسع عشر)، واللون الكريمي للطبعة الأولى من كتاب “الأعمال الشعرية الكاملة” تشارلز بيغي (الطبعة الحالية تتبع نظام الألوان المعتاد للقرن العشرين).

الخطاب الرئاسي

◄ نعي الرئيس الفرنسي للكاتب خطاب مفعم بالصدق
نعي الرئيس الفرنسي للكاتب خطاب مفعم بالصدق

إن دخول كاتب معاصر مثل جان دورميسون إلى سلسلة راقية مثل لا بلياد دليل على قيمته الأدبية والتاريخية. الجميل في الأمر أن الأمور تمت بالنسبة إليه وهو على قيد الحياة، لأن هذا التكريم يقع عادة بعد وفاة الكتاب المعنيين بالأمر.

 هكذا إذن، تضمنت سنة 2017 في تأريخ حياة جان دورميسون هذا المقطع من خطاب الرئيس إيمانويل ماكرون “كان جان دورميسون من أولئك الذين ذكرونا بأن الخفة ليست نقيض العمق، بل نقيض الثقل (…)ها نحن يا عزيزي جان أمامك. أي أمام كتبك. كل من ظللتهم بتسلياتك، والذين غمرتهم بتواضعك، كل الذين أكدت لهم أنك لن تدوم أكثر من غداء تحت الشمس، يواجهون هذه الحقيقة الجلية، التي كان الكثيرون على دراية بها، يتناقلونها سرا. هذه الحقيقة الجلية هي عملك. لا أقول: كتبك، ولا أقول: رواياتك. أقول: عملك. فما بنيته بلا مبالاة من يبدو أنه لا يهتم أبدا بما يقوم به، يقفُ أمامنا بقوة صرح حيث كل شيء مقصود ومدروس، حيثُ نتعرفُ في كل صفحة على ما يسميه مؤرخو الفن لوحة ألوان، أي ذلك التنوع الغني من الألوان الذي لا تجمعه إلا نظرة منفردة”.

◄ ما يثير اهتمامنا هو الإحساس وربما الوعي بالحياة الذي يتسم به جان دورميسون ككاتب وكإنسان قبل كل شيء

الخطاب بأسره جميل وضارب في الإنسانية، وهو متوفر على موقع رئاسة الجمهورية – قصر الإليزيه. لكن، ما يثير اهتمامنا هنا، هو الإحساس وربما الوعي بالحياة الذي يتسم به جان دورميسون ككاتب وكإنسان قبل كل شيء.

نعم، يتماهى الكاتب والإنسان بطريقة سلسة تلقائية وطبيعية إلى حد غريب، غير معقول وربما غير مسبوق، إذ يفضي هذا التماهي إلى حياة مغايرة في الأدب؛ حياة يصيرُ فيها الخيالُ أكثر واقعية من الواقع ذاته. بهذه الطريقة، عندما يقول جان دورميسون في كتاب حوارات ما يلي، فهو كالطفل المطيع الذي يطلب هدية العيد: “في جنازة مالرو، وُضعتْ قطة قرب النعش، وفي جنازة ديفير وُضعت قبعة، أنا أريدُ قلم رصاص، قلم رصاص للورق، كما كان ذلك في طفولتنا. لا سيف، ولا وسام جوقة الشرف، مجرد قلم رصاص بسيط”.

وكان له ذلك، بعد الخطاب الرئاسي الضارب في الجمال وفي الإنسانية، تحصل الكاتب – الآدمي على قلم رصاص أزرق. يمكن للملاحظ المنتبه وهو القارئ المحب أن يتبين أن هذا اللون الأزرق البحري أو السماوي هو نفسه لون عيني جان دورميسون الزرقاوين اللتين ما انفك أصدقاؤه الأدباء يتغزلون بهما. المهم هنا، هو حصول الرجل على مبتغاه وهذا بطريقة ما معنى السعادة الحقيقية: شيء بسيط لتخليد حياة ثرية وناجحة بفضل نفس هذا الشيء البسيط: قلم رصاص للكتابة، ربما لكتابة حياة شعرية بعد الموت.

◄ سلسلة تتسم بنوعية ورقها الإنجيلي الرهيف والقوي في نفس الوقت، وبأغلفتها الجلدية المرصعة بماء الذهب عيار 23 قريطا
سلسلة تتسم بنوعية ورقها الإنجيلي الرهيف والقوي في نفس الوقت، وبأغلفتها الجلدية المرصعة بماء الذهب عيار 23 قريطا

 

9