سلسبيل قويدر لـ"العرب": الفرنسية ليست لغة أجنبية في تونس
من وظيفة الباحث أن يكشف عن التجارب الأدبية غير الرائجة ويفتح عوالمها للقراء، ومن هنا اتخذت الباحثة والأكاديمية التونسية سلسبيل قويدر منهجها في البحث حول شاعر غاية في الأهمية في تاريخ الأدب الفرنسي والعالمي، هو تيوفيل غوتييه، الذي أبدع في الشعر والقصص الفانتازية تجربة أدبية غاية في التأثير. "العرب" كان لها هذا الحوار مع الباحثة حول كتابها النقدي عن غوتييه وآراء أخرى.
سلسبيل قويدر متحصلة على دكتوراه في الأدب الفرنسي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس. هي عضو أجنبي في جمعية تيوفيل غوتييه، ناقشت أطروحتها حول مؤلف رواية “الكابتن فراكاس”، التي نشرت مؤخرا في باريس عند منشورات لارماتان بعنوان “الكتابة التصويرية في القصص الخيالية لتيوفيل غوتييه”.
لا تتوقف قويدر عند دورها مدرّسة باحثة في المعهد العالي للدراسات التطبيقية في الإنسانيات بالمهدية، جامعة المنستير، تونس، إذ لم يشغلها عالم التدريس عن تقديم العديد من المؤلفات في الأدب الفرنسي والمقارن.
فانتازيا غوتييه
• العرب: يبدو أن لديك شغفا كبيرا بتيوفيل غوتييه (1811 – 1872)، وهو كاتب كرست له بحثين في الماجستير والدكتوراه. لماذا هذا الكاتب بالتحديد؟

سلسبيل قويدر: إنه شغف بأدب القرن التاسع عشر بصفة عامة، وأدب الفانتازيا بصفة خاصة. يعد تيوفيل غوتييه من بين الكتاب الذين درست أعمالهم بإعجاب كبير خلال دراستي في إطار شهادة الماجستير. كان شاعرا، وكاتبا للقصص القصيرة وناقدا فنيا أيضا، وقد أثار فضولي بأصالته.
قرأت عددا لا بأس به من قصص الفانتازيا القصيرة لكتاب مختلفين من القرن التاسع عشر، لكنني وجدت أن أعمال تيوفيل غوتييه غنية بالمعنى والدلالة. لفتت رواية “سبيريت” انتباهي لتقديم شهادتي للماجستير ببحث أسلوبي يركز على كشف أسرار كتاباته الفانتازية. وهذا ما دفعني لاحقا إلى تناول جميع قصصه الفانتازية القصيرة في أطروحتي للدكتوراه، بهدف تعميق البحث في أعماله بمجموعة أوسع من الحكايات والقصص القصيرة، بهدف اكتشاف خصائص لغة “الفانتازي”.
صحيح أن هناك العديد من الأعمال حول تيوفيل غوتييه مقسمة بين أبحاث الماجستير وأطروحات الدكتوراه والأعمال النظرية والنقدية والمقالات والتقارير ومحاضر المؤتمرات، لكنني حاولت دراسة النقاط التي لم يغطها المتخصصون والمنظرون بناء على دراسة ترتكز على تفسير الأدوات اللغوية المختلفة لدعم نظريات الأدب الخيالي والتي تعكس، كما يبدو لي، أصالة كتاباته على المستويين الموضوعي والشكلي.
• العرب: تستشهدين بسيغموند فرويد وجورج مولينييه، وألان مونتاندون، ورولان بارت. كيف يمكن للقارئ أن يصف منهجك في البحث وفي تناول أعمال تيوفيل غوتييه؟
سلسبيل قويدر: لقد اعتمدت في عملي منهجا أسلوبيا قائما على استخدام أدوات متعددة من اللغويات والبلاغة عموما، واستكشاف المجازات البلاغية والأسلوب خصوصا، وذلك لمصلحة التحليل الأدبي لنصوص تيوفيل غوتييه الفانتازية.
وإذا كنت قد أشرت إلى فرويد، فذلك لأن مرجع التحليل النفسي في تفسير بعض الشخصيات الفصامية أو التي تتسم بالبارانويا، على سبيل المثال، قد أثبت نجاعته. مواضيع مثل انفصام الشخصية واللاوعي والرغبة المكبوتة تحيي أعمال الشاعر الفانتازية. لهذا السبب يجب ألا يغفل تحليلي النصي عن المرجع الفرويدي، فهو موجود بشكل أو بآخر في العديد من نظريات هذا النوع الأدبي الفانتازي.
وكذلك هو الحال بالنسبة إلى الإشارات إلى ألان مونتاندون ورولان بارت، التي لا تعزز هذا التحليل فحسب، بل تمكنني أيضا من تعزيز منهجيتي الأسلوبية بلمسة جمالية ونقدية معينة تجعل من أعمال غوتييه مرآة لكتابات فانتازية متعددة. يتعلق هذا الأمر، بطبيعة الحال، بمسألة تلقي هذا العمل، وهو أمر أساسي، ويجب أن يكشف عنه من خلال نهج أسلوبي بلا شك، ولكنه لا ينفي الانفتاح على مراجع التحليل النفسي والجمالية والمراجع النقدية، وهي مراجع مهمة للغاية في فهم فانتازيا غوتييه.
صديق بودلير
• العرب: “إن الجانب الأخير من السرد الشعري المصور هو التشبيه. فهو يبقى الأداة الأساسية لخلق اللغة من خلال الصور الحكمية. والرمزان الأسلوبيان الرئيسيان اللذان يبرزان الحكمية عند غوتييه هما الاستعارة والتشبيه. ولا بد أن يمر بناء عالم عجائبي من خلال هذين الرمزين. إن الجمع بين الاستعارة والتشبيه في العبارة نفسها، ودراسة التشبيه على حدة وتحليل آلياته المختلفة، واهتمام الكاتب بالاستعارة، يشكل نشاطا يسلط الضوء على جميع مواضيع وظواهر العجائبية المذكورة في هذا العمل. ويعد التشبيه والاستعارة، الثابتان في جميع قصص غوتييه، دليلا على وفرة اللغة ومفردات هذا النوع الأدبي. فهما يجمعان مبادئ الشاعر الذي يسعى إلى أن يكون رومانسيا وبارناسيا في آن واحد، داعيا إلى قراءة خيالية لأعماله. يركز الجزء الثالث، إذن، على المرحلة الأخيرة من الكتابة التصويرية كمكان للإيمان. إن الإيمان بقوة أسلوب غوتييه هو ما يمكنه من تحويل اللغة إلى صور من خلال النوع الأدبي الفانتازي.”
سلسبيل قويدر: هذا ما كتبته في ختام أطروحتك المنشورة. وهذه هي أهم الاستنتاجات التي تستخلصينها من عملك على تيوفيل غوتييه. بعبارة أخرى، هكذا تنظرين إلى غوتييه، الذي احتفى به شارل بودلير من خلال إهدائه رائعته ديوان “أزهار الشر”، ولكن غالبا ما يعتبر ككاتب من الدرجة الثانية. ما رأيك في ذلك؟

أعتقد أن تيوفيل غوتييه يمتلك مصدرا لا ينضب من المواد التي لا تزال تجذب انتباه الباحثين اليوم، سواء صنف ككاتب من الدرجة الثانية أم لا. صحيح أنه متمسك بشدة بالجمال الشكلي أو الجماليات، كما ينتقد العديد من المنظرين بُعدَه عن أي التزام اجتماعي. ومع ذلك، فقد تركت موهبته الشعرية، بالإضافة إلى أعماله الفانتازية وقصص رحلاته، بصماتها على الساحة الأدبية. لذلك لا يسعني أن أنكر مكانته، لكنني أؤكد أن العمل على هذا الشاعر مثير للاهتمام، خاصة مع نهج أسلوبي يؤكد بوضوح أصالة لغة غوتييه.
سبق لبودلير أن قال في إهدائه لكتاب “أزهار الشر”: “إلى الشاعر البارع، وساحر الأدب الفرنسي الماهر، وإلى أستاذي وصديقي العزيز والمبجل تيوفيل غوتييه، وبمشاعر تواضع عميق، أهدي هذه الزهور المريضة. ش. ب.”
لذا، أعتقد أن كلمات غوتييه نابعة من السحر، مما يميز أسلوبه الكتابي الفريد.
الفرنسية في تونس
• العرب: بصفتك أستاذة وباحثة في اللغة والآداب والحضارة الفرنسية، ما رأيك في مستقبل اللغة الفرنسية في بلادنا؟ هل أصبحت الفرنسية لغة أجنبية؟
سلسبيل قويدر: بناء على تجربتي المتواضعة في التدريس الجامعي، أعتقد أن اللغة الفرنسية تواجه تحديات لا مشاكل في بلادنا. ترتبط هذه التحديات بتقنيات وأساليب تدريسها، التي تقيدها السياقات الاجتماعية، ولا بد من إعادة النظر والتفكير فيها، إذ بدأت الفرنسية تتلاشى من الاستخدام اليومي. يفضل الشباب اللغة العربية، أو حتى الإنجليزية، التي بدأت تكتسب مكانة مرموقة.
لا أنكر أهمية اللغة الفرنسية في التواصل أو البحث العلمي، فهي لا تزال لغة مرموقة، وتستخدم في تدريس العديد من التخصصات في الجامعات التونسية. لذلك، ليست الفرنسية لغة أجنبية. ومع ذلك، فهي تتطلب عملا “جادا”/”صارما” في التطوير والإدماج الاجتماعي الإلزامي حتى لا تصبح لغة غريبة عنا.
• العرب: هل ترجمت أعمال تيوفيل غوتييه إلى العربية؟
سلسبيل قويدر: على حد علمي، لا، لم تترجم أعمال غوتييه إلى العربية. ربما توجد نصوص مترجمة في مجموعات أدبية فرنسية أو غيرها، لكنها غير متوفرة، أو على الأقل غير مذكورة، على الموقع الرسمي لجمعية تيوفيل غوتييه، وهو المصدر الأكثر موثوقية للمراجع السيرية، ويحدّث بانتظام ليستفيد منه باحثو غوتييه والمتخصصون في أعماله في مختلف البلدان.
• العرب: إذا كان عليك أن تبدئي من جديد، فما هي الخيارات التي ستتخذين؟ إذا كان عليك أن تتجسدي في كلمة، في شجرة، في حيوان، فماذا ستكونين في كل مرة؟
سلسبيل قويدر: أنا لا أبدأ من جديد، بل أتجدد وأبدع. أنا امرأة تونسية حرة.
كلمة؟ أمل. شجرة؟ شجرة زيتون. حيوان؟ قطة.
يوجد نص لغوتييه عن تونس ويجدر بمترجم مهم مثل حضرتكم تعريبه ومشاركتنا إياه.