كيف حوّل المغرب التراث إلى رافعة اقتصادية

السياحة الثقافية في جوهرها صناعة إنسانية. نجاحها لا يُقاس بعدد الزوار فقط بل بمدى قدرتها على خلق حوار بين الثقافات وعلى تمكين المجتمعات المحلية من إعادة اكتشاف ذاتها.
الخميس 2025/09/11
أصيلة نموذج يستحق الدراسة

حتى وقت قريب، كانت السياحة تُختزل في صور نمطية: شواطئ رملية، منتجعات فاخرة، ومناخ معتدل يجذب الباحثين عن الاسترخاء. لكن هذا النموذج لم يعد كافيًا. التحولات في سلوك المسافرين، مدفوعة بتغيرات اجتماعية واقتصادية وتكنولوجية، جعلت من الثقافة محورًا رئيسيًا في صناعة السياحة العالمية. وفقًا لتقرير منظمة السياحة العالمية (UNWTO)، فإن 40 في المئة من السياح الدوليين باتوا يفضلون الوجهات التي تقدم تجربة ثقافية أصيلة، تتجاوز المشهد البصري إلى التفاعل الحي مع السكان المحليين، والمشاركة في طقوسهم اليومية.

السائح المعاصر لا يبحث عن صورة يلتقطها، بل عن سردية يعيشها. يريد أن يفهم المكان من الداخل، أن يكتشف تاريخه، أن يتذوق طعامه، ويستمع إلى موسيقاه، ويشارك في احتفالاته. هذا التحول من “سياحة المشاهدة” إلى “سياحة المشاركة” أعاد تعريف معايير الجذب السياحي، وغيّر ترتيب المدن الأكثر زيارة في العالم.

لندن، التي لطالما ارتبطت في المخيلة بطقسها الرمادي، تستقطب اليوم أكثر من 15.5 مليون زائر سنويًا، وفقًا لتقرير “يورومونيتور إنترناشونال” لعام 2024، ما يجعلها رابع أكثر مدينة جذبا للزوار على المستوى العالمي بعد باريس وبانكوك ودبي. اللافت أن 70 في المئة من زوار لندن يضعون الثقافة ضمن أولوياتهم. بحسب هيئة السياحة البريطانية (VisitBritain) المدينة تضم أكثر من 170 متحفًا، و240 مسرحًا، وتستضيف سنويًا أكثر من 3000 فعالية ثقافية، من بينها مهرجانات أدبية، عروض أوبرا، ومعارض فنية عالمية.

◄ تجربة المغرب مع المهرجانات الثقافية تبرهن أن الثقافة ليست ترفًا، بل أداة فعالة للتنمية. الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الإنسان، في ذاكرته، وفي قدرته على التفاعل مع العالم

الأمر ذاته ينطبق على باريس، التي تستقبل أكثر من 19 مليون زائر سنويًا، ونيويورك التي تجاوزت 13 مليونًا، وبرلين التي باتت وجهة مفضلة لعشاق الفن المعاصر والموسيقى البديلة. هذه المدن لم تراهن على الطبيعة، بل على قدرتها على تقديم محتوى ثقافي متجدد، يربط الزائر بتاريخها ويمنحه فرصة لفهم حاضرها.

في هذا السياق، برز المغرب كحالة عربية استثنائية. منذ مطلع الألفية، تبنّى رؤية إستراتيجية تعتبر الثقافة رافعة اقتصادية واجتماعية، لا مجرد ترف أو نشاط موسمي. وزارة الثقافة المغربية، بالتعاون مع مؤسسات محلية ودولية، دعمت أكثر من 30 مهرجانًا سنويًا، تتوزع على مختلف جهات المملكة، وتستقطب جمهورًا متنوعًا من الداخل والخارج.

مهرجان موازين في الرباط، الذي تأسس عام 2001، يُعد من أكبر مهرجانات الموسيقى في العالم العربي، حيث استقطب في دورته الأخيرة أكثر من 2.5 مليون زائر خلال عشرة أيام. مهرجان كناوة في الصويرة يجمع سنويًا أكثر من 300 فنان من أفريقيا وأوروبا، ويستقطب نحو 500 ألف زائر. مهرجان فاس للموسيقى الروحية، الذي تأسس عام 1994، يُعد منصة عالمية للحوار بين الثقافات، ويستقطب مفكرين وفنانين من أكثر من 40 دولة.

لكن التجربة الأكثر تكاملًا تبقى مهرجان أصيلة، الذي تأسس عام 1978 بمبادرة من المفكر والدبلوماسي الراحل محمد بن عيسى. المهرجان لا يقتصر على الفنون التشكيلية، بل يشمل ندوات فكرية، ورش عمل، عروضا موسيقية، ومعارض كتب. خلال فترة المهرجان، تتحول المدينة إلى فضاء مفتوح للإبداع، حيث تُطلَى الجدران بلوحات فنية، وتُفتح الأزقة للزوار، وتُستغل المقاهي والحدائق كمراكز للنقاش والحوار.

الأثر الاقتصادي للمهرجان ملموس: الفنادق تُحجز بالكامل، المطاعم تسجل ارتفاعًا في المبيعات بنسبة تتجاوز 60 في المئة، وفقًا لتقرير المجلس البلدي للمدينة، والحرفيون المحليون يحققون دخلًا مضاعفًا مقارنة بالأشهر الأخرى. كما يوفر المهرجان فرص عمل مؤقتة لأكثر من 300 شاب من المدينة، في مجالات التنظيم والإرشاد والخدمات اللوجستية.

◄ السائح المعاصر لا يبحث عن صورة يلتقطها، بل عن سردية يعيشها. يريد أن يفهم المكان من الداخل، أن يكتشف تاريخه، أن يتذوق طعامه، ويستمع إلى موسيقاه، ويشارك في احتفالاته

على المستوى الاجتماعي، ساهم المهرجان في إعادة تشكيل هوية المدينة، وتعزيز شعور سكانها بالانتماء والفخر. أصيلة، التي كانت مدينة ساحلية صغيرة، أصبحت اليوم علامة ثقافية دولية، تُذكر في تقارير اليونسكو، وتُستضاف فعالياتها في معارض دولية. هذا الاعتراف الخارجي يمنح السكان دافعًا للحفاظ على تراثهم، لأنه لم يعد محليًا فقط، بل أصبح جزءًا من ذاكرة ثقافية عالمية.

لكن النجاح يطرح تحديات. كيف يمكن الحفاظ على روح المهرجان دون الوقوع في فخ “التسليع الثقافي”، الذي حوّل الكثير من المهرجانات حول العالم إلى عروض سطحية؟ الجواب يكمن في التوازن: الانفتاح على الجمهور دون التفريط في الأصالة، وتقديم الثقافة كقيمة لا كمنتج.

ما يقدّمه مهرجان أصيلة ليس مجرد نموذج مغربي، بل تجربة قابلة للتكرار في مدن عربية أخرى تمتلك تراثًا غنيًا لكنه غير مستغل. العالم العربي يضم أكثر من 300 مدينة تاريخية، وفقًا لبيانات المنظمة العربية للسياحة، الكثير منها يعاني من التهميش رغم امتلاكها لمقومات ثقافية وسياحية فريدة. النجاح لا يرتبط بحجم الميزانية، بل بوضوح الرؤية، وفاعلية التنظيم، وقدرة المدينة على تقديم تجربة ثقافية تحترم تراثها وتفتح أبوابها للعالم.

السياحة الثقافية، في جوهرها، ليست مجرد صناعة، بل أداة لبناء الجسور بين الشعوب. نجاحها يُقاس بمدى قدرتها على خلق حوار بين الثقافات، وعلى تمكين المجتمعات المحلية من إعادة اكتشاف ذاتها. في أصيلة، عندما يرسم فنان من اليابان جدارية على جدار قديم، أو يناقش مفكر من مصر مستقبل الذكاء الاصطناعي في خيمة الإبداع، فإن ذلك ليس مجرد نشاط فني، بل هو فعل حضاري يعيد تعريف المدينة، ويمنحها مكانة في عالم يتجه نحو الانقسام والتشظي.

تجربة المغرب مع المهرجانات الثقافية تبرهن أن الثقافة ليست ترفًا، بل أداة فعالة للتنمية. الاستثمار في الثقافة هو استثمار في الإنسان، في ذاكرته، وفي قدرته على التفاعل مع العالم. وإذا استطاع مهرجان واحد أن يُعيد تعريف مدينة بأكملها، فإن العالم العربي قادر، عبر تراثه، على إعادة تعريف نفسه في الساحة الدولية، إذا آمن بقيمة الثقافة ومنحها المكانة التي تستحقها.

9