في تونس التقشف درع للكرامة الوطنية

خلف الأرقام، تكمن القصة الحقيقية في صبر التونسيين الاستثنائي، رغم تعالي الاستياء الشعبي احتجاجا على السياسات الاقتصادية.
السبت 2025/10/11
سياسة شدّ الأحزمة

وسط أزمات اقتصادية طالت معظم دول العالم، ومن بينها دول كبرى وقعت تحت وطأة الديون والركود، تبرز تونس لتسجل قصة نجاح غير متوقعة. البلد الشمال أفريقي، الذي عانى من اضطرابات سياسية واجتماعية بعد ثورة 2011، أعلن مؤخرًا عن سداد كامل ديونه الخارجية قبل المواعيد المحددة، وبنسبة تفوق 125% من المتوقع. هذا الإنجاز ليس مجرد إحصائية مالية، بل هو شهادة على قوة الإرادة الوطنية والإدارة الرشيدة. ولن نبالغ إذا قلنا إنّ ما حققته تونس يمثل مثالا يستحق الدراسة، حيث جمعت بين التقشف الشعبي، الضبط الإداري، والاستفادة الذكية من الموارد الطبيعية، لتعيد بناء الثقة في الاقتصاد الوطني وتفتح أبواب الاستثمار العالمي. 

بدأت القصة في أعقاب جائحة كوفيد-19، التي أدت إلى تفاقم الديون، حيث بلغ الدين الخارجي أكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي. بحلول 2023 كانت تونس تواجه تحديات هائلة: عجزًا في الميزان التجاري، انخفاضًا في السياحة، وارتفاعًا في أسعار الطاقة والغذاء بسبب الصراعات الدولية. لكن بدلاً من الاستسلام للإملاءات الخارجية، مثل تلك المفروضة على دول عديدة من قبل صندوق النقد الدولي، اختارت طريقًا مختلفًا. تحت قيادة الرئيس قيس سعيّد، تم تنفيذ سياسة مالية صارمة تركز على تقليص الواردات غير الضرورية، حماية قيمة الدينار التونسي، وتعزيز الصادرات المحلية مثل زيت الزيتون والفوسفات. هذه الإجراءات، وإن بدت قاسية، أدت إلى توفير احتياطيات من العملة الصعبة، مما سمح بسداد الديون قبل ثلاثة أشهر من الموعد. 

 

رغم التضخم والضغوط تحمّل التونسيون سياسة شد الأحزمة مساندين موقف الرئيس قيس سعيّد الرافض للإملاءات والشروط هذا الصبر الشعبي تحوّل إلى رصيد استراتيجي أعاد الثقة بالاقتصاد الوطني

من وجهة نظري، كان الدور الإداري حاسمًا في هذا التحول. رفضت الإدارة التونسية الارتهان للشروط الخارجية، مفضلة الاعتماد على الموارد الذاتية. على سبيل المثال، تم تقليص الاستيراد بنسبة كبيرة، مما حافظ على الاحتياطيات ومنع انهيار العملة. كما استفادت البلاد من تحويلات التونسيين في الخارج، التي بلغت مليارات الدولارات، وانتعاش السياحة بعد الجائحة. هذه الإستراتيجية لم تكن خالية من المخاطر؛ فقد أدت إلى نقص في بعض السلع، لكنها أعادت الثقة بالاقتصاد الوطني. النتيجة كانت رفع وكالات التصنيف الائتماني درجات تونس: فيتش من CCC+ إلى B-، وموديز من CAA2 إلى CAA1. هذه التحسينات تعني انخفاض تكلفة الاقتراض وجذب استثمارات جديدة، مما يفتح آفاقًا للنمو المستدام. 

خلف هذه الأرقام، تكمن القصة الحقيقية، هي دور التونسيين. بينما يتعالى الاستياء الشعبي احتجاجًا على السياسات الاقتصادية التي تنتهجها الحكومات، أظهر التونسيون صبرًا استثنائيًا. تحمل سياسة التقشف، التي شملت رفع الأسعار وتقليص الإنفاق الحكومي، لم يكن سهلًا. عانى الكثيرون من ارتفاع التضخم، الذي بلغ ذروته في 2023 قبل أن ينخفض تدريجيًا إلى حوالي 5% في 2025. ومع ذلك، أدرك التونسيون أن هذا التقشف درع للكرامة الوطنية، وأخال أنني أسمعهم يقولون مخاطبين بطونهم: "قرقر أو لا تقرقر، فإنك لن تذوق السمن حتى يشبع أطفال المسلمين". 

التونسيون، وأكاد أجزم من خلال متابعاتي الشخصية في الأسواق، أبدوا صبرا منقط النظير مساندين موقف الرئيس سعيّد الذي قالها بوضوح: "لا شروط مذلة، ولا إملاءات مهينة". تحول الصبر إلى رصيد استراتيجي، حيث ساهم في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي رغم الضغوط. وبرأيي، هذا الوعي الشعبي هو السر الحقيقي وراء المعجزة؛ فبدون دعم الشارع، لما نجحت أي سياسة إدارية. 

ولأن، كما جاء على لسان العرب، الشيء بالشيء يذكر، يمكن مقارنة هذه المعجزة بقصص نجاح أخرى في التاريخ، مثل إصلاحات سنغافورة أو أيرلندا في التسعينيات. بدأت تونس بأزمة، لكنها تحولت إلى فرصة من خلال التركيز على القطاعات القوية. على سبيل المثال، ارتفع إنتاج زيت الزيتون بنسبة كبيرة في 2024-2025، بفضل الطقس الجيد، مما عزز الصادرات. كذلك، ساعدت الاستثمارات في الطاقة المتجددة، مثل مشاريع الطاقة الشمسية بقيمة 500 ميغاواط، في جذب رؤوس أموال أجنبية. هذه الخطوات ليست مجرد إصلاحات فنية، بل جزء من رؤية وطنية تهدف إلى الاستقلال الاقتصادي. 

 

تونس أعلنت في 2025 سداد كامل ديونها الخارجية قبل المواعيد المحددة بنسبة 125% بفضل سياسة مالية صارمة، تقليص الواردات، حماية الدينار، وصبر شعبي اعتبر التقشف درعًا للكرامة الوطنية

ومع ذلك، لا يخلو الطريق من عقبات. رغم السداد، يظل الدين العام مرتفعًا، ويعتمد الاقتصاد على الاقتراض الداخلي، الذي بلغ 7.08 مليار دولار في الميزانية الجديدة. كما أن معدل النمو المتوقع (حوالي 1.9 – 2.3%) لا يزال متواضعًا مقارنة بالحاجة إلى خلق فرص عمل، خاصة مع بطالة تصل إلى 16%. بعد أن نجحت الحكومة التونسية في تثبيت سعر الدينار وخفض الفوائد وسداد كامل الدين الخارجي قبل الموعد بثلاثة شهور، ستتجه الآن للتركيز على الإصلاحات الهيكلية: تقليص الاقتصاد غير الرسمي، الذي يشكل نسبة كبيرة، وتشجيع الاستثمار الخاص من خلال تسهيل الإجراءات. كذلك، يمكن تعزيز الشراكات مع الاتحاد الأوروبي وأفريقيا لزيادة التجارة. 

المعجزة التونسية ليست معجزة بالمعنى السحري للكلمة، بل نتيجة لإرادة شعب وإدارة حكيمة. كتبت تونس قصة نجاحها بعرق أبنائها، مؤكدة أن السيادة لا تُشترى والكرامة لا تُقايض. هذه القصة تذكرنا بأن الصغار في الجغرافيا يمكن أن يكونوا كبارًا في الإرادة. إذا استمرت تونس في هذا النهج، مع التركيز على التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، فإنها قد تصبح نموذجًا لدول الجنوب. 

"تونس خط أحمر" ليس شعارًا، بل واقع اقتصادي يستحق أن يُحتفى به.