غزّة بوصلة مصير الدّولة الفلسطينية المرجوّة
يتردد سؤال حول من هو الأخطر على إسرائيل: هل هي منظمة التحرير الفلسطينية أم حركة حماس؟ وفي سياق آخر، يبرز سؤال أكثر موضوعية: من الأقدر على تحقيق الدولة الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني؟ هل هي منظمة التحرير المدعومة بشرعية دولية، أم حركة حماس المدعومة من إيران والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين؟
لن أخوض في جدل من قدم شهداء أكثر أو حرر أراضي أوسع أو حقق إنجازات أكبر، فالقصف الإسرائيلي الأعمى لا يفرق بين “حمساوي” أو “فتحاوي”، ولا بين ابن السلطة الوطنية أو ابن تنظيم الإخوان المسلمين. القاعدة الإسرائيلية تقوم على استهداف الجميع، فـ”الفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت،” بحسب منطقها. جميع الفلسطينيين يتقدمون ساحات المعارك، مع الأخذ في الاعتبار أن الحركة الحاكمة تتصدر الصفوف في مناطق نفوذها. ففي الضفة الغربية، حيث تسيطر السلطة الوطنية، تتقدم كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكري لحركة فتح، المشهد، وخير دليل على ذلك جنين ومخيمها الأسطوري، حيث استشهد العديد من عناصر وضباط الأمن الفلسطيني في اشتباكات مباشرة مع الاحتلال. وفي قطاع غزة، تتصدر كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، المشهد.
في المقابل، يطرح سؤال قديم: لماذا لم تدعم إسرائيل السلطة الوطنية عسكريًا خلال ما يُسمى “انقلاب حماس الأسود”؟ إسرائيل معروفة بتدخلها العسكري في مناطق تبعد آلاف الكيلومترات لحماية حلفائها، كما فعلت مؤخرًا حين دعمت الدروز في سوريا خلال خلافاتهم مع البدو، وتدخلت بوقاحة في الشأن السوري الداخلي لترجيح كفة على حساب أخرى. الإجابة واضحة: هذا الموقف يبرّئ السلطة من الافتراءات التي تتهمها بأنها “صناعة إسرائيلية”، وهي اتهامات لا يقبلها العقل ويرفضها الواقع على الأرض.
◄ عودة السلطة الوطنية لتسلم مسؤولياتها في قطاع غزة هي الطريق الأمثل لقيام دولة فلسطينية مكتملة الأركان، مدعومة بقرارات الشرعية الدولية. هذه العودة لن تبدأ إلا بانسحاب حركة حماس من المشهد الحكومي في قطاع غزة المجوّع
من البديهي أن وجود حماس في واجهة حكم قطاع غزة يعفي إسرائيل من أيّ استحقاق سياسي، مثل قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو، أو اقتصادي، مثل إعادة إعمار القطاع. كما أنه يعمق الانقسام الفلسطيني الداخلي بشكل واضح، ويجهض إمكانية قيام دولة فلسطينية. هذا الانقسام يمثل جوهرة تاج مشروع بنيامين نتنياهو، الذي عمل على تجسيده منذ توليه رئاسة الوزراء لأول مرة في عام 1996. حماس تدرك هذا جيدًا، ولذا تتقاطع مصالحها مع مصالح نتنياهو السياسية، إذ يسعى كلاهما إلى إفشال وجود السلطة في “اليوم التالي”. خير دليل على ذلك اللافتات التي كانت تعرضها حماس خلال استعراضاتها عند تسليم الأسرى الإسرائيليين، والتي جاء فيها بوضوح: “نحن اليوم التالي.”
في هذا السياق، لا يمكن لأقرب المقربين إلى حماس وصفها بشريك حقيقي للسلام في الشرق الأوسط. بل إن تقديمها كحركة تسعى للسلام شبه مستحيل، إذ يتركز خطابها على المطالبة بانسحاب الاحتلال، هدنة لعشر سنوات، فتح المعابر، والسماح للعمال الفلسطينيين بالعمل داخل إسرائيل. بمعنى آخر، حلول حماس مؤقتة وطارئة، ولا تحمل طابع الديمومة.
من ناحية أخرى، لا ينطبق على السلطة الوطنية ما ينطبق على حماس أو على حكومة المتطرفين في إسرائيل. تصريحات وزراء مثل إيتمار بن غفير (وزير الأمن القومي)، بتسلئيل سموتريتش (وزير المالية)، وعميحاي إلياهو (وزير التراث) تكشف عن عنصرية واضحة. في المقابل، تظهر السلطة الوطنية كطرف واقعي يحث على السلام، مستندًا إلى قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في ظل تناطح اليمينين الصهيوني والفلسطيني، بينما يدفع الشعب الفلسطيني المسالم الثمن.
تصريح وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو أوضح الكثير، إذ أكد أن الاعتراف الفرنسي بدولة فلسطينية ليس مكافأة لحماس، بل تأكيد على أن “معسكر السلام على صواب.” السلطة الوطنية هي جزء من هذا المعسكر، وهذا أمر لا يحتاج إلى استنتاج. وجود حماس في الحكم يبرر لنتنياهو أفعاله، إذ لن تجد دولة واحدة في العالم، من شماله إلى جنوبه، تؤيد إقامة دويلة لحماس في غزة. كل الطغيان الحربي والوهم الإغاثي الذي تقوم به حكومة نتنياهو يصبح مبررًا أمام العالم. لكن إذا انتهى حكم حماس نهائيًا، وليس مجرد “القضاء على مقدرات حماس” كما يردد نتنياهو، فلن يجد مبررًا لفظائعه العسكرية، الاقتصادية، والسياسية. نتنياهو لا يريد القضاء على حماس، بل يريدها ضعيفة، مهلهلة، سهلة الاختراق، وذريعة يتذرع بها لإفشال المشروع السياسي للسلطة الوطنية. في المقابل، يسعى للقضاء على السلطة أو حلها بالحد الأدنى، للتخلص من كابوس اتفاق أوسلو وقرارات الشرعية الدولية. حماس وأتباعها طالبوا مرارًا بحل السلطة، ما يعزز هذا التقاطع.
إسرائيل ترفض بشدة قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود الرابع من يونيو – حزيران، ويؤكد نتنياهو في تصريحاته رفضه “العودة إلى خطأ أوسلو.” واتفاق أوسلو، كما يعلم الجميع، يشكل حجر الزاوية لأيّ اتفاق مستقبلي بين الفلسطينيين والإسرائيليين. عودة السلطة الوطنية لتسلم مسؤولياتها في قطاع غزة هي الطريق الأمثل لقيام دولة فلسطينية مكتملة الأركان، مدعومة بقرارات الشرعية الدولية. هذه العودة لن تبدأ إلا بانسحاب حركة حماس من المشهد الحكومي في قطاع غزة المجوّع.