عن الديمقراطية في العراق

لسنا وحدنا نحن الكُتّاب السياسيين المستقلين الباكين على الديمقراطية المعذبة في العراق (الجديد) بل معنا الكثيرون من داخل أحزاب المحاصصة ذاتها، يُبطنون غير ما يعلنون من إقرار شديد بشرور المحاصصة.
الثلاثاء 2025/09/02
قوانين اللعبة هي نفسها.. لم تتغير

نحن العراقيين الباحثين عن وطنٍ معافى ومشافى، لم نكن لنعادي المحاصصة التي جمّلوها فأسموها (الشراكة الوطنية) لو أنها أتت للعراق بحكومة تحترم نفسها، قوية وفاعلة، تحقق للمواطن بعض أمنه وبعض حاجاته الأساسية الضرورية. ولكن لأنها لم تتمخض إلا عن حكومات متعاقبة مهزوزة متناقضة، ليس بين وزرائها أقل ما يمكن من التفاهم والانسجام، فنحن ضدها، وضد فرسانها الكبار.

لسنا وحدنا، نحن الكُتّاب السياسيين المستقلين الباكين على الديمقراطية المعذبة في العراق (الجديد)، بل معنا الكثيرون من داخل أحزاب المحاصصة ذاتها، يُبطنون غير ما يعلنون من إقرار شديد بشرور المحاصصة، ويتمنون لو كان في أيديهم دفنها، وتشكيل حكومة أغلبية تنتجها انتخابات نزيهة قدر الإمكان، مع تأسيس معارضة وطنية واعية مخلصة قوية تراقبها وتحاسبها أولًا بأول.

فالكرد نادمون على تحالفهم مع أحزاب الإسلام السياسي، وكارهون لاضطرارهم للتعامل مع قوميين عرب وبعثيين لا يضمرون لهم الخير، لا اليوم ولا في قادم الأيام. ومن داخل أحزاب الدين السياسي نسمع من بعض أعضائها المتحضرين المتنورين شكاوى مُرّة من عمالة قادتها لدول أجنبية، عربية وغير عربية، ومن جشعهم، وتسلط أبنائهم وذويهم، وجهالة العدد الأكبر من المنتسبين لأحزابهم وميليشياتهم المغسولة أدمغتهم بالخرافة وأكاذيب وعّاظ السلاطين.

وإذا كان الكرد يتطلعون إلى اليوم الذي يتحرّرون فيه من هذه التحالفات، فالإسلاميون لا يخفون شعورهم بالخوف من تحالف قادتهم مع الكرد، ومن خطر هذا التحالف على قواعد أحزابهم في محافظات الوسط والجنوب.

هذه هي المعادلة التي يقوم عليها نظام الحكم القائم اليوم في العراق: أعداء متحالفون اضطرارًا، في انتظار اللحظة المناسبة.

◄ الدولة العراقية ستبقى دولة هذه الأحزاب والشلل والصفقات، من الآن وإلى أن يشاء الله، إلا إذا حفظ الناخبون العراقيون الدرس، وأدركوا أنهم القوة الوحيدة الباقية القادرة على قلب هذه الطاولة على أصحابها

وضمن معطيات هذه المعادلة المملة التي أرست قواعدها أميركا، بجهل أو بخبث، بالتفاهم والتعاون مع الجارة إيران ووكلائها العراقيين الغارقين في بحور جشعهم وفسادهم، فإن الأمل بوجود ديمقراطية، حتى لو كانت ناقصة ويُؤمَل إصلاحها في انتخابات قادمة، مفقود أو مُصادَر، بعبارة أدق.

إذ من أين تأتي الديمقراطية لدى هؤلاء الزعماء الذين تربوا على العمل السري في أحزاب المعارضة، فلم يتمرسوا إلا بمهارات التخفي والمراوغة والدس والوقيعة والتآمر والخداع؟

فمن أول مؤتمرات تلك المعارضة كنا ندق نواقيس الخطر من احتمال سقوط نظام صدام، وقبض هذه الشلة على رقبة الوطن وشعبه المسكين. كنا نقول، علنًا ودون مواربة، في جميع ما نكتب ونذيع، ومن أول أيام غزو صدام للكويت، إن بقاء نظام صدام وهو ضعيف ومنزوع الأنياب والأظافر، أقل ضررًا على الدولة العراقية، حكومة وجيشًا وشعبًا، من هيمنة أشخاص فاسدين ومفسدين متكالبين على المنافع والغنائم بقوة السلاح والمال الحرام، مدعومين بجبروت أميركا وحماية دول الجوار.

وكنا نشرح أسباب خوفنا من هؤلاء على حكم العراق، بأن انتظار ولادة القوة الوطنية الديمقراطية المستقلة القادرة على إسقاط نظام صدام، حتى لو طال ذلك الانتظار، أرحم للعراق وللعراقيين من قيام أميركا بإسقاطه وتسليم الوطن لحلفائها الشطار والحشاشين. فنظام الراحل صدام حسين ساقط لا محالة، إن لم يكن غدًا، فبعد غد، وحتى لو طال عمره قليلًا فهو محاصر ومنزوع الأنياب والأظافر، وغير قادر على البطش الذي اعتاد عليه في سابق عهده غير الرشيد.

أما نظام هؤلاء المتسترين، اليوم، بالعدالة والوطنية وسلطة القانون، فقد أخذ، وسيأخذ، دهرًا طويلًا من أعمار العراقيين يزيد على ما أخذه نظام صدام بأضعاف مضاعفة، وقد ذاق العراقيون، وسيذوقون، على أيديهم، أكثر مما ذاقوه على أيدي الصداميين من ظلم وفساد.

وكل من حضر اجتماعات المعارضة في لندن وفيينا ونيويورك وصلاح الدين يفهم ما أقول. إن الذي يحدث اليوم هو نفسه الذي كان يحدث بالأمس وأكثر وأقسى وأمضّ. لم يتغير شيء مهم سوى هذه الفوضى الكلامية التي يسمونها حرية وديمقراطية وهم واهمون. لم يتغيروا. هم هم من أيام المعارضة السابقة دون نقص، بل بزيادة.

فصفقات المحاصصة التي كانت تتم فيما بينهم في الغرف الخلفية في فنادق لندن ونيويورك ودمشق والرياض، أيام مؤتمرات المعارضة، هي نفسها التي تتم بينهم اليوم في الغرف الخلفية لمبنى الحكومة والبرلمان.

وكذبٌ كل دعاواهم عن الديمقراطية والدستور. فالديمقراطية والدستور لهما عندهم وظيفة واحدة لا غير، هي حفظ هذه التوازنات، وترسيخ هذه المقاسات. أما حين يتعلق الأمر بمصالحهم الأسرية والحزبية، فليس لأحد منهم شغلٌ بديمقراطية ولا بدستور.

ومن لم يكن مثلهم، وبنفس مواهبهم في التآمر والخداع والغدر، لا مكان له في الحكومة والبرلمان.

لا أمل في خروج الوطن من هذه الورطة ما دامت قوانين اللعبة نفسها دون تغيير، وما دامت لأميركا وإيران مصلحة في بقاء الحال على حاله، إلى أجل غير مسمى.

فلا الكرد قادرون على تغيير تحالفاتهم وانتقاء أطراف أخرى يتحالفون معها غير التي تتوفر الآن، ولا أحزاب الدين السياسي (الشيعية تحديدًا) قادرة على فرض هيمنتها الواحدة، وطرد الكرد والسنة معًا من ساحة الفعل السياسي المفروض عليها من الخارج.

وستبقى الدولة العراقية دولة هذه الأحزاب والشلل والصفقات، من الآن وإلى أن يشاء الله، إلا إذا حفظ الناخبون العراقيون الدرس، وأدركوا أنهم القوة الوحيدة الباقية القادرة على قلب هذه الطاولة على أصحابها، وإقامة موازنة جديدة عادلة وحقيقية، وإعادة الوطن إلى أهله سالمًا معافى، كما كان، وكما ينبغي أن يكون.

8