"طحالب مرة".. زوجة وأم مهمشة وسط صراع على الإرث وهيمنة ذكورية

إدريس شويكة يسلط عدسته على معاناة جامعات الطحالب من التهميش الاجتماعي.
الاثنين 2025/09/29
هنية نموذج لنساء منهكات

يستعرض المخرج إدريس شويكة في فيلمه الجديد "طحالب مرة" واقعا اجتماعيا واقتصاديا هشا في إحدى القرى الساحلية المغربية، متطرقا إلى قضايا مهمة مثل الذكورية، وعقبات الانتقال الاجتماعي والاقتصادي، وحق المرأة في الإرث، مقابل قيود التقاليد والعادات، ضمن إطار واقعي يستحضر الطبيعة والصراع العائلي وظروف العاملين في البحر.

شارك الفيلم المغربي “طحالب مرة” للمخرج القدير إدريس شويكة في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي لفيلم المرأة بسلا في دورته الثامنة عشرة التي تكرم الإبداع السينمائي النسائي وتحتفي بقضايا المرأة من خلال عدسة الفن السابع.

وتتمحور قصة العمل السينمائي حول شخصية هنية، التي تؤدي دورها الممثلة يسرى بوحموش، وهي شابة تحلم بالهجرة لكنها تجد نفسها عالقة في قريتها بعد اختفاء زوجها مصطفى الغواص في ظروف غامضة، وبينما تتشبث حماتها بأمل عودته، تدخل هنية في نزاع حاد مع شقيقه المعطي الذي يستحوذ على الميراث ويمنع ابنة أخيه من متابعة دراستها، ليفرض عليها عزلة قاسية تزيد من معاناة الأسرة.

الفليم من تأليف شوقي حمداني، ويشارك في بطولته يسرى بوحموش، ماجد لكرون، صفاء خاتمي، خديجة عدلي ومحمد بوصبع.

قصة في ظاهرها عن فتاة مهمشة لكنها في عمقها تبرز وضعية نساء كثيرات يواجهن الإقصاء اليومي
قصة في ظاهرها عن فتاة مهمشة لكنها في عمقها تبرز وضعية نساء كثيرات يواجهن الإقصاء اليومي

ويكشف الفيلم عن عالم مهمش من خلال قصة تدور أحداثها في قرية ساحلية مغربية تعيش على صيد الأسماك وجمع الطحالب البحرية، إذ يضع الشريط المشاهد أمام واقع اجتماعي واقتصادي هش، مطبوع بالصراعات المرتبطة بالإرث والهيمنة الذكورية ونضال النساء من أجل لقمة العيش.

وتتجلى إيجابية السيناريو في فكرته الأساسية التي تنطلق من فعل بسيط هو جمع الطحالب البحرية، لتُحوِّله إلى استعارة مكثفة عن الاستغلال والهشاشة والتهميش الاجتماعي. وهذا الاختيار الذكي يجعل الحكاية قادرة على حمل أبعاد رمزية متعددة، فهي في ظاهرها قصة فتاة تدعى هنية مهمشة على أطراف البحر، لكنها في عمقها تبرز وضعية نساء كثيرات يواجهن الإقصاء اليومي في مناطق مختلفة من المغرب. وهنا يثبت السيناريو أنه انطلق من تفصيل صغير في الحياة الواقعية ليتسع تدريجيًا ويصبح صورة عن الهامش الإنساني برمته.

ويحسب للسيناريو أيضًا أنه يمنح البطلة هنية مركزية واضحة، ويجعل من مقاومتها الصامتة خيطًا ناظمًا للحكاية، فبدل أن تكون مجرد ضحية، تتحول إلى رمز للصمود والبحث عن الكرامة في مواجهة محيط قاسٍ. هذا البعد الإنساني يجعل الفيلم قريبًا من الجمهور، لأنه يقدم قصة محلية بجذور اجتماعية، لكنها تحمل في الوقت نفسه بعدًا كونيًا عن معاناة النساء في مواجهة الاستغلال والهيمنة الذكورية.

ويبدأ المونتاج في “طحالب مرة” بإيقاع سريع لا يترك للمتفرج الوقت الكافي للتعرف على الشخصيات أو استيعاب العلاقات التي تربطها فيما بينها مثل هنية وأبنائها والمعطي ومصطفى، كما لا يمنح فرصة لرسم ملامح الزمان والمكان خلال العشر دقائق الأولى. هذا التسارع المبكر جعل المقدمة أقرب إلى عرض مكثف للمعلومات دون تدقيق، بدل أن تكون مدخلا سلسا إلى العوالم النفسية والاجتماعية التي تحرك الأحداث مثل أسباب التشاحن بين الأخ مصطفى وأخيه المعطي والزوجة هنية والمعطي، وهكذا ضاع على الفيلم ما يسمى في اللغة السينمائية بـ”زمن التأسيس”، أي الزمن الضروري لبناء قاعدة سردية متينة تضمن تماسك القصة وشد انتباه المشاهد.

لكن بعد مرور حوالي عشرين دقيقة، ينقلب الإيقاع إلى تباطؤ ملحوظ يدخل المشاهد في دوامة من الحوار والحوار المضاد أي جدلية الحدث والحدث المضاد وبين السالب والموجب، بين الفعل وردة الفعل، إذ يبتعد الفيلم عن الدفع بالحدث إلى الأمام، وينغمس في نقاشات متضادة لا تفتح مسارات جديدة للقصة بقدر ما تُثقِل حركتها، وهذا التناقض بين سرعة البداية ورتابة الوسط أحدث شرخًا في البناء السردي، وجعل المتلقي يتأرجح بين الحاجة إلى سرعة مضبوطة في التقديم، وبين رغبة في تسريع وتيرة التطورات التي تعطلت بفعل التباطؤ.

ويقضي القانون غير المعلن في السينما بأن العشر دقائق الأولى هي لحظة حاسمة في جذب المتفرج أو فقدانه، لأنها تضع التعريف الأساسي بالشخصيات والفضاء وتفتح الطريق أمام العقدة الدرامية. فإذا كان الإيقاع أسرع مما ينبغي، يضيع التعريف كما حصل فعلًا في هذا الفيلم مع عائلة مصطفى وزوجته هنية، وإذا تباطأ أكثر مما يجب، يحتاج المشاهد إلى نَفَس طويل يصعب الحفاظ عليه إذا استمر الإيقاع على نفس النغمة. وفي الحالتين تكون النتيجة واحدة: فقدان جزء من الجمهور الذي يحاول عبثا ربط خيوط القصة وفهم منطلقاتها.

حح

ويضع الفيلم المتلقي أمام مشهد صادم يتمثل في انتحار الفتاة المراهقة التي تدعى فتيحة، إذ يظهر هذا المشهد باردًا على المستوى الدرامي، ويفتقد للتصعيد النفسي الذي يجعله ذروة مأساوية داخل السرد، فماذا لو أصيبت بمرض نفسي وكان السبيل إلى العقاب مستشفى المجانين مثلا؟ بينما الانتحار لسبب تافه ظهر وكأنه مقحم أكثر منه نتيجة طبيعية لتطورات القصة، وهو ما أفقده حرارة التأثير.

يدخل الفيلم في تعقيد آخر عند ظهور شخصيتي عبدالكبير الركاكة وعبدالله شيشة بدون تعريف، إذ لا يقدم العمل تعريفا واضحا بهما، ولا يكشف إن كانا مسؤولين محليين أو أبناء المنطقة أو شخصيات لها صلة مباشرة بموضوع اختفاء الزوج، ويترك الغموض في هذا المستوى فراغا في البناء السردي، ويجعل المشاهد يتساءل عن دوافع وجودهما وعن علاقتهما بعقدة القصة، دون أن يجد جوابا مقنعا في سياق الأحداث.

ويعطي الإخراج لنفسه مساحة واسعة من الحرية في اختيار اللقطات المقربة في عيون هنية ونسيبتها أم مصطفى، ويبرز ذلك أيضا اللقطات البعيدة في شاعرية البحر واستغلال الفضاء البحري كمسرح للأحداث، ويلتقط المخرج صورا بانورامية للمنطقة ويحولها إلى لوحات جمالية شهدناها، تجعل البحر شخصية صامتة توازي معاناة البطلة، وتساهم هذه الصور في ترسيخ البعد التأملي للفيلم، وتكشف أن العين الإخراجية اهتمت بالبعد التشكيلي بقدر اهتمامها بالبعد الدرامي.

إيجابية السيناريو تتجلى في انطلاقه من جمع الطحالب البحرية، ليحولها إلى استعارة مكثفة عن الاستغلال والتهميش الاجتماعي

ويبلغ الإبداع ذروته مع الصور التي التقطها مدير التصوير فاضل شويكة في عمق البحر، ولحظة انغماس في جمع الطحالب، وهنا تتحول الكاميرا إلى عين غاطسة تتابع حركات الجسد وسط الموج والتيارات، فتنقل للمشاهد إحساسا مباشرا بالاختناق والخطر، إذ تتماوج اللقطات بين العتمة والنور، وبين صفاء المياه وارتطام الأمواج، لتخلق لغة بصرية مشحونة بالرهبة وجمال الفضاء معًا. هذا الاشتغال على الفضاء البحري جعل من البحر مسرحا متوترا يكشف هشاشة الإنسان أمام قوة الطبيعة، ويمنح للفيلم بعدا بصريا قلّما يتحقق في السينما المغربية.

ويشهد الفيلم أيضا اجتهادا في الآداء، إذ قدّم ماجد لكرون في دور المعطي حضورا متزنا ومقنعا كشخصية طاغية بواقعية بدون تصنع، إذ يعد لكرون واحدا من الوجوه المميزة في الساحة الفنية المغربية التي لم تأخذ مكانتها الحقيقية، وهو ممثل من مواليد مدينة الدار البيضاء، ارتبط بعالم التمثيل منذ أكثر من عشرين سنة. عشق الفن منذ طفولته، وجعل من التمثيل مساره الأول، فصقل موهبته بالدراسة والتكوين في مؤسسة الفنون الحية، كونه تلقى أسس الأداء المسرحي والسينمائي قبل أن يشق طريقه بثبات في عالم الدراما والسينما، كمسلسل دار السلعة، والمفتش حمادي، إلى جانب مشاركته في الفيلم السينمائي باب الشيطان، وفيلم الفردي. وهذا التنوع في الأدوار مكّنه من إبراز مرونته كممثل قادر على الانتقال بين الشخصيات الاجتماعية والدرامية والنفسية باحترافية واضحة، وقد تُوّج عطاؤه بجائزة أحسن ممثل في المهرجان الوطني للدراما التلفزيونية سنة 2018، عن دوره في فيلم القرية المنسية للمخرج مصطفى مضمون، وهو اعتراف مستحق بقدراته الفنية وطاقته التمثيلية الكبيرة.

أما يسرى بوحموش فقدمت في دور هنية أداءً مجتهدا ومقبولا، برز فيه اجتهادها في الإمساك بخيوط شخصية صعبة تعيش التهميش اليومي، فعبّرت بجسدها ونظراتها أكثر مما عبّرت بالكلام، وهو ما انسجم مع طبيعة الفيلم القائمة على الصمت والتأمل. وتأتي الفنانة القديرة خديجة عدلي لتضيف لمسة من الإتقان والخبرة في الأمومة، إذ منحت الشخصية التي جسدتها قوة صامتة، مؤكدة مرة أخرى مكانتها كأحد الوجوه البارزة في الدراما والسينما المغربية.

وبصم “طحالب مرة” على حضور لافت في المهرجانات الدولية، حينما توج في يونيو الماضي بأربع جوائز في المهرجان الدولي للأفلام “كولدن فيمي” بالعاصمة البلغارية صوفيا، إذ حصل الشريط الروائي الجديد على جائزة أفضل دراما لفيلم أجنبي، وجائزة أفضل إخراج لشويكة، بينما توج أداء يسرى بوحموش بجائزة أفضل دور نسائي، فيما حازت رقية بنحدو جائزة أفضل إنتاج.

9