"شذرات".. عن الزمن المتقطع في ذاكرة مرضى الزهايمر
في الفيلم السينمائي المغربي “شذرات” يروي لنا المخرجان جنان فاتن محمدي وعبدالإله زيراط ثلاث حكايات مترابطة تستكشف الذاكرة والحب والفقد والندوب النفسية التي يتركها الماضي. تتبع الحكاية الأساسية قصة غيثة، مغنية ملحون مشهورة في مكناس، تبدأ بفقدان ذاكرتها نتيجة إصابتها بالزهايمر، فيما يحاول زوجها حسن، عازف الكمان وقائد الأوركسترا، مساعدتها على مواجهة تراجع الذاكرة والارتباط بالماضي.
تتشابك قصص الشخصيات الأخرى، مثل صديقتها رحيل، آخر امرأة يهودية في المدينة القديمة، وابنها كريم، وابنة القائد المحارب أمل، في فضاءات مغربية متنوعة بين مكناس والرباط وإفران، لتخلق شبكة سردية غنية تكشف تدريجيًا الأسرار المكبوتة والعلاقات المعقدة بين الماضي والحاضر.
الفيلم من سيناريو جنان فاتن محمدي، وبطولة كل من خلود البطيوي وأيوب ليوسيفي وسارة برليس وإسماعيل قناطير وسليمة بنمون وسعيد أمل ووئام شباط علمي وياسين هواري ورجاء الفقير وتوفيق السلامي وحياة فوزي وهشام الإبراهيمي.
يعتمد السيناريو على فكرة ذكية تقوم على تشابك الذاكرة الشخصية والجماعية، حيث يفقد الجمهور جزءًا من الأحداث ليكتشفها تدريجيًا مع الشخصيات، هذه الطريقة تمنح النص بعدًا تفاعليًا للمشاهد، إذ تتحول متابعته للفيلم إلى عملية إعادة بناء الذاكرة وربط الماضي بالحاضر. كما يظهر السيناريو حساسية عالية في اختيار الشخصيات التي تمثل رموزًا اجتماعية وتاريخية، مثل رحيل آخر امرأة يهودية في المدينة القديمة، والقائد المحارب الذي يعكس انعكاسات الصدمات الحربية على النفس البشرية.
ويستند السيناريو إلى مفهوم الذاكرة التفاعلية في علم النفس المعرفي، حينما يوضح طرقا تتداخل فيها الذكريات الشخصية مع الأحداث الجماعية والتاريخية.
في أحد المشاهد تكشف رحيل لغيثة أن عمر عاد بعد الحرب ليجدها حاملا من حسن، هنا تبرز قدرة السيناريو على تقديم صراع نفسي معقد بأسلوب جميل وحوار مقتضب وتعبيرات دقيقة معبرة. هذه الطريقة تكشف دراسة ذكية للطابع النفسي للشخصية في مواجهة الفقد والخيبة، وهو ما يمكن ربطه بنظرية الهوية المتعددة في علم النفس الاجتماعي، إذ تتقاطع ذاكرة الفرد مع الهويات المتعددة التي يكتسبها من بيئته وثقافته.
ويعتمد الإخراج على بنية بصرية محكمة، حينما تُصبح كل لقطة وحدة سردية قائمة بذاتها. في مشهد آخر تغني غيثة الملحون في بيتها القديم بينما يتحرك حسن ببطء مع كمانه، وتمتزج اللقطات المقربة التي تركز على تعابير الوجه الدقيقة مع اللقطات الواسعة التي تظهر المكان والزمن، ما يعبر بكل بساطة عن الارتباط النفسي للشخصية بالفضاء.
ويمكن ربط هذا التحليل بمبادئ علم الاجتماع البصري، وتحديدا عندما تبرز متتاليات المشاهد تعبير المكان عن الحالة النفسية، والعزلة الاجتماعية، والفقد، وهذا يجعل المتلقي يتفاعل مع المشهد على مستوى عاطفي وذاتي. والحركة البطيئة للكاميرا تتيح التأمل في التفاصيل الدقيقة، مثل ارتجاف اليد أو النظرات المترددة، والتي تكشف بكل بساطة التوتر النفسي للشخصية التي تعاني في صمت.
ونكتشف لغة الصورة عند نقل الحالات النفسية، مثل مشهد رحيل وهي تغلق النوافذ القديمة على المدينة العتيقة قبل مرور الرياح. الألوان الدافئة للماضي تتباين مع ألوان الحاضر الباردة، لتوضح التناقض بين الذاكرة المشرقة والحاضر المتلاشي، بينما يبرز هذا الاستخدام المتميز في الصورة كلغة سينمائية، ما يمكن اعتباره تطبيقًا عمليًا لجماليات الصورة، خاصة عندما تُصبح الصور أداة مباشرة للتأثير العاطفي، وتتجاوز وظيفة التزيين لتكون لغة سردية رئيسية تبين العزلة والفقد والمعاناة في صمت.
ويمثل أداء خلود البطيوي حالة الزهايمر بطريقة دقيقة وحساسة، مثل مشهد ابتسامتها المفاجئة أثناء تذكر أغنية قديمة ثم انهيارها عاطفيًا. فالأداء يعتمد على التباين بين الوضوح والفقد، ويوضح صراع الشخصية مع ذاكرتها، بينما يقدّم إسماعيل بو القناطر أداءً دقيقًا في مشهد محاولته مساعدة غيثة على التذكر مع الكمان، كونه يجسد الصبر والحب المكبوت والصراع النفسي مع الماضي، حينما يدمج الممثل بين الإدراك العاطفي للشخصية والتفاعل الواقعي مع البيئة المحيطة.
ويمثل الفيلم نموذجًا للهوية المغربية من خلال الزمان والمكان والإكسسوارات والملابس وفن الملحون. فمشهد غيثة وهي تغني الملحون في الفناء الداخلي مرتدية جلابية تقليدية وحسن يحمل كمانه المزخرف، يعكس أصالة المكان والهوية المغربية. كذلك جاء إدماج الملحون كأداة سردية ليعزز الترابط بين الذاكرة الفردية والجماعية، ويبين إلى أي حد يمكن للثقافة الموسيقية أن تُصبح عنصرًا فعالا في بناء السرد السينمائي، وهو ما يرتبط بدراسات الأنثروبولوجيا الثقافية والهوية الموسيقية وعلاقتها بمشاعر الإنسان وذاكرته.
السيناريو يستند إلى مفهوم الذاكرة التفاعلية في علم النفس المعرفي، حينما يوضح طرقا تتداخل فيها الذكريات الشخصية مع الأحداث الجماعية والتاريخية
وبدأ الفيلم بإيقاع تصاعدي متوازن، كما يبين في مشهد اللقاء الأول بين أمل وكريم أثناء السفر، لتتشابك الحكايات وتخلق توترًا دراميًا مستمرًا، بينما في نصف الساعة الأخير يُلاحظ تراجع الإيقاع، خاصة في مشهد استرجاع الذكريات مع انتقال الكاميرا بين الماضي والحاضر، فطول المشاهد وتكرار الأحداث أضعفا إيقاع تسلسل الأحداث، وهذه مغامرة قد تخلق شعورًا بالرتابة والمتاهة الزمنية، وهو تحدٍ متكرر في أفلام معالجة الذاكرة المعقدة، ويستحق الدراسة في تحليل الإيقاع السردي في السينما الحديثة.
وجنان فاتن محمدي كاتبة سيناريو ومخرجة مغربية، بدأت مسيرتها الفنية في سن الثامنة عشرة بفيلم قصير بعنوان القدر، بعد فوزها بجائزة الرغّاب للسيناريو. أخرجت بعد ذلك العديد من الأفلام القصيرة والأفلام الوثائقية، من بينها “دنيا” و”لو حُكي سي جيلوى” و”وتاتا” و”تمبكتو… عندما تتحدث الكثبان”. وحصد فيلمها القصير “صرخة الخشخاش” جوائز محلية ودولية. وتعمل منذ عشرين عامًا كمخرجة في القناة الوطنية المغربية، مساهمةً بفاعلية في المشهد السينمائي المغربي.
وعبدالإله زيراط، ابن مدينة بوزنيقة، خريج المعهد العالي للفن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط، وحاصل على دبلوم المعهد الأورومتوسطي للسينما، وأستاذ التعليم الفني.
طور إمكانياته بشكل ملحوظ من خلال المشاركة في العديد من الدورات التدريبية عبر مراحل السينما المختلفة. كتب وأخرج عشرة أفلام قصيرة، من أبرزها “باسم والدي” و”خلاص” و”أخطاء متعمدة” و”الانتظار في ثلاثة مشاهد”، بالإضافة إلى أفلام وثائقية هامة، مثل “جلوطة” و”الطيب” و”الشرير والرابور” و”رحلة الشاي الأخضر” و”الصحراء: إيقاعات ساحرة”. أخرج شريطه السينمائي الطويل الأول بعنوان “شذرات”، والشريط الثاني بعنوان “المسخوط”.
يُعرف عبدالإله زيراط بكونه مخرجا مجتهدا ومبدعا، يتميز بلمسة فنية جميلة وبخبرة كبيرة في مجال الإخراج السينمائي، وهو يسير بخطى ثابتة نحو تحقيق أهدافه المهنية.