سعيد الناصيري لـ"العرب": "تسخسيخة" يحاكي الانهيار النفسي ومعاناة أسر مغربية

مخرج مغربي يواصل قراءة المجتمع وقضاياه بين الدراما والكوميديا.
الاثنين 2025/07/21
فنان يعبر عن مجتمعه

يسعى المخرج المغربي سعيد الناصيري ضمن محاولات سينمائية وفنية واعية وجدية للتعبير عن المجتمع المغربي وأبرز القضايا والظواهر الخاصة به، التي تنطلق من الخاص إلى العام، لتأخذ منحى أكثر شمولية، يجعلها تعبر عن الواقع المحلي لكنها منفتحة على الحراك السينمائي العربي والعالمي. وهو في أحدث أفلامه "تسخسيخة" يصور المشاكل النفسية داخل العائلات المجهدة من الأوضاع الاقتصادية.

الرباط- يخوض المخرج والممثل المغربي سعيد الناصيري تجربة سينمائية جديدة من خلال فيلمه المرتقب “تسخسيخة”، الذي يندرج ضمن خانة الكوميديا الاجتماعية ذات الأبعاد الدرامية والنفسية، في محاولة واعية لتقديم صورة مركبة عن الواقع المغربي، بمآسيه اليومية ومفارقاته الساخرة. ويُشكّل هذا المشروع حلقة جديدة ضمن مسيرة فنية تتغذى على نبض الشارع، وتسعى إلى ترجمة المسكوت عنه بلغة سينمائية تنبض بالحياة وتحاكي الوجدان المحلي.

ويتجه الناصيري في هذا الفيلم إلى تفكيك واقع الأسر المغربية من الداخل، من خلال الغوص في مشاعر القلق والإجهاد النفسي التي تراكمها الحياة اليومية. ويؤكد أن الفيلم لا يقدّم مأساة مجردة أو خطابا مباشرا، بينما يختار أسلوبا يمزج بين التهكم والمأساة، حينما تأخذ الشخصيات المتعبة والمقهورة حيّزا مركزيا في السرد. وعبر عنوانه المبدئي “تسخسيخة”، يُحاول أن يُمسك بتعبير شعبي مألوف لدى المغاربة، يدل على الانهيار العصبي والذهني، كحالة قصوى من الضغط النفسي والانفجار الداخلي.

ويستثمر المخرج المغربي هذا المفهوم الشعبي لخلق لحظة سردية تنفتح على أزمنة متوترة، حيث تظهر ملامح سيناريو مبني على أزمة عائلية تضع امرأة في قلب معاناة غير متوقعة بعد اختفاء زوجها في ظروف غامضة. ويُطوّر الحبكة لتأخذ منحى بوليسيا، حين تتعقد الأحداث ويتحول مصير العائلة إلى لعبة مافيا مع شبكات ترويج الكوكايين، خصوصا بعد اختطاف ابنها والمطالبة بفدية مالية وكمية من المخدرات سبق أن سُرقت من العصابة.

ويبرز هذا البناء السردي رغبة المخرج في التلاعب بالتوترات النفسية والاجتماعية، والانتقال بالسرد من الفضاء الضيق الشخصي إلى مساحة أوسع تشمل الجريمة، السوق السوداء، والعنف الاقتصادي. ويعكس هذا التحوّل في الحبكة تأثير العوامل الخارجية على تماسك الأسرة المغربية، حيث تتداخل المسؤوليات العائلية مع التهديدات الخارجية، ويتحول الهامشي إلى مركزي في تحديد مصير الأبطال.

ويعتمد الفيلم على مدينة الدار البيضاء وضواحيها كموقع تصوير، وفضاءات واقعية على الأحداث، ويُغذيها بجغرافيا حضرية مليئة بالتناقضات، بين التهميش الاجتماعي والثراء السطحي، بين العشوائيات والمراكز التجارية، ليُعطي للسيناريو خلفية صلبة تمكّنه من تفكيك البنية النفسية لشخصياته.

ويوضح الناصيري لـ”العرب” أن اختياره للدار البيضاء لم يكن وليد الصدفة، وإنما انبثق من علاقة فنية وروحية تربطه بهذه المدينة، التي سبق أن شكلت مسرحا لأعماله السابقة.

ويُفضل الناصيري الاشتغال خارج منظومة الدعم العمومي، وقد أتمّ هذا الفيلم بتمويل خاص من المنتج مصطفى الربادي، في إطار تجربة إنتاجية تؤمن بالاستقلال والحرية الفنية، رغم صعوبة التمويل وغلاء الكلفة التقنية. ويعتبر أن العمل خارج مظلة المركز السينمائي المغربي ليس موقفا عدائيا، وإنما هو خيار نابع من رغبته في الإنجاز السريع والمباشر، دون انتظار أو خضوع لشروط قد تُقيد الرؤية الإبداعية.

وجدد المخرج ثقته في الطاقات التمثيلية المغربية، من خلال اختياره لمجموعة من الأسماء التي تُعزز الرصيد الفني للفيلم، وفي مقدمتها النجمة حنان الإبراهيمي، التي تعود إلى السينما بعد سنوات من الغياب، مُجسّدة دورا مركزيا يُمثّل القلب العاطفي والدرامي للقصة. كما يشارك إلى جانبها كل من جواد العلمي، زكرياء عاطفي وأمين بنجلون، كونه يحرص على توزيع الأدوار بطريقة تمنح كل شخصية فضاءها التعبيري وعمقها السيكولوجي.

ويضيف الناصيري إلى هذه التجربة فيلما آخر بعنوان “الشلاهبية”، انتهى مؤخرا من تصويره وتوضيبه، وهو عمل يُسلّط الضوء على كواليس الحملات الانتخابية، وما يرافقها من ممارسات لا أخلاقية، وتلاعبات سياسية تهدد مصداقية الفعل الديمقراطي.

ويطرح الفيلم الواقع السياسي المغربي من زاوية ساخرة، عبر شخصيات تتحرك في دوامة من الطمع، الاستغلال والتزييف، ليمنح الموضوع نفسا نقديا قويا دون السقوط في المباشرة أو الخطابية.

وقال الناصيري إن السينما، في نظره، ليست مجرد تسلية سطحية أو مشاهد للاستعراض البصري، لأنها أداة تفكير وتحريض على الوعي، لكن بطريقة تضمن للمتفرج المتعة والدهشة في آن واحد. ويعتبر أن الكوميديا، حين تُوظف بذكاء، قادرة على كشف أعطاب المجتمع وتحويل الهمّ الجماعي إلى حالة من التأمل المرح، دون الوقوع في التهريج أو الابتذال.

◄ المخرج سعيد الناصيري يُفضل الناصيري الاشتغال خارج منظومة الدعم العمومي

يعمل الناصيري من خلال فيلم “تسخسيخة” على تفكيك تركيبة الإنسان المغربي المعاصر، حين يُصبح العيش اليومي مرادفا للبقاء تحت ضغط مستمر، وحين تتحول الأسرة من مصدر للراحة إلى فضاء للتوتر، بفعل غياب الأب، تهديدات الخارج، وعبء المسؤولية. ويُقدّم السيناريو هذه العناصر في تتابع تصاعدي، يُغرق الشخصيات في اختبارات متلاحقة، ويُجبرها على اتخاذ قرارات خارجة عن المألوف.

وأوضح المخرج المغربي لـ”العرب” أن استحضار مافيا الكوكايين ليس عنصرا تجاريا أو بوليسيا صرفا، لأنه تمثيل رمزي لعنف السوق، وجشع الشبكات غير القانونية، التي تتغذى على فقر الناس وضعفهم، وتُهدد النسيج العائلي. بهذا المنظور، تُصبح الجريمة مجرد خلفية للأحداث، ومُحرّكا دراميا يكشف التحولات التي طرأت على المجتمع المغربي، حينما تختلط الأخلاق بالمصالح، والخوف باللامبالاة.

ويطمح الناصيري في النهاية إلى أن يُحدث هذا الفيلم أثرا وجدانيا حقيقيا لدى الجمهور، وأن يُعيد النقاش حول الضغوط النفسية التي يعيشها الأفراد في ظل تراجع قيم التضامن، وتحلل الأدوار العائلية. ويرى أن دور السينما يكمن في معالجتها فنيا، وطرحها بأساليب جاذبة، تُقربها من المتلقي دون أن تُبسطها حدّ التفاهة.

ويؤكد أن “تسخسيخة” صرخة سينمائية مشحونة بالأسى والضحك، صرخة تُجسّد لحظة انهيار الإنسان حين يُصبح واقعه أكبر من طاقته، وتُجسّد أيضا محاولة للتماسك داخل الفوضى، وللبحث عن بصيص أمل داخل العتمة، وهذه، في رأيه، هي وظيفة الفن الحقيقي: أن يُنقذنا ولو للحظة من القبح، وأن يُشعرنا أننا لسنا وحدنا في مواجهة الحياة.

ويرى المخرج المغربي أن الوسط الفني في المغرب يعاني من خلل بنيوي حاد، إذ يسيره أشخاص يفتقرون إلى التخصص والتكوين الثقافي والفني، وهذا يؤدي إلى نتائج عكسية على مستوى الإنتاج والإبداع. ويؤكد أن الفنان المغربي غالبا ما يكون مسيّرا لا مخيّرا، ومغلوبا على أمره داخل منظومة لا تحترم ذوق الجمهور، وتُقصي كل من يرفض الانخراط في تيار التفاهة والتطبيل. وهذا الوضع، بحسب رأيه، يُفرغ العمل الفني من مضمونه الحقيقي، ويجعل المبدع مجرد أداة في يد من لا ينتمون أصلا إلى الحقل الفني.

ويشدد الناصيري على غياب صناعة سينمائية حقيقية في المغرب، معتبرا أن هذا الغياب هو من أبرز أسباب تعثّر التقدم في المجال. كما يحمّل وزارة الثقافة مسؤولية الفشل، خاصة في إدارتها للقطاع السينمائي، مستشهدا بما وصفه بـ”القاعات السينمائية الجديدة” التي لا تعدو أن تكون مسارح عادية تم تزويدها بشاشات بسيطة، دون تحقيق أي تطوير فعلي. ويرى أن النهج المتبع في إدارة السينما يغلب عليه الطابع الدعائي، خاصة عندما تُروّج إنجازات ظاهرها الإيجابية تخفي وراءها فشلا ذريعا، مطالبا بوجود مهنيين حقيقيين يفهمون طبيعة هذا القطاع ويعملون على خدمته بناءً على احتياجات الجمهور لا وفق مصالح ضيقة وشعارات زائفة.

الفيلم تفكيك لواقع الأسر المغربية من خلال الغوص في مشاعر القلق والإجهاد النفسي التي تراكمها الحياة اليومية

ويعدّ سعيد الناصيري، أحد أبرز الممثلين والمخرجين على الساحة الفنية المغربية. بدأ مسيرته الفنية سنة 1988، وحقق شهرة واسعة بفضل أدائه الكوميدي المميز، خاصة من خلال شخصية “العوني” التي لاقت رواجا كبيرا لدى الجمهور. تنوعت مشاركاته بين السينما والتلفزيون، حيث لعب أدوار البطولة في عدة أفلام شكلت بصمة في تاريخ الكوميديا المغربية، مثل “ولد الدرب”، “الباندية”، “عبدو عند الموحدين”، “الخطاف”، “زوج للكراء”، “مروكي في باريس”، “سارة”، “الحمالة”، “أخناتون في مراكش”، و”نايضة”.

في مجال التلفزيون، بصم الناصيري على نجاحات كبيرة من خلال السيتكومات التي كتبها ومثل فيها، والتي لاقت متابعة جماهيرية لافتة على امتداد سنوات، بدءًا من “أنا وخويا ومراتو” سنة 1998، مرورا بأعمال مثل “الربيب”، “عتج”، “أنا ومراتي ونسابي”، ووصولا إلى “العوني” بجزأيه في 2005 و2007. كما قدّم سيتكومات ناجحة في السنوات الأخيرة مثل “البوي” بأجزائه الثلاثة بين 2019 و2022، و”زوجتك نفسي” سنة 2021، إلى جانب آخر أعماله “نائب الرئيس” سنة 2024، والتي تؤكد استمراره وحضوره القوي في المشهد الكوميدي المغربي.

14