سعدالله ونوس.. المسرحي الذي قاوم الطغيان بالكلمة
الرموز الثقافية لأي بلد هي الأعلام الذين خطوا سطورا وصفحات في تاريخ هذا البلد أو ذاك، وبالتالي فإن تخليد ذكراهم يتجاوز شخوصهم إلى ترسيخ الذاكرة الوطنية، فالأوطان تقوم على مثقفيها ونخبتها قبل أي عنصر آخر. من هنا نفهم الضجة الكبرى التي رافقت خبر إزالة اسم الكاتب السوري سعدالله ونوس عن مدرسة والتراجع عن ذلك.
في ركن ناءٍ من قرية حصين البحر بريف طرطوس السوري، وُلد سعدالله ونوس عام 1941 وسط عائلة فقيرة تعاني من وطأة الحرمان. كان الطفل ضعيفا في مادة التعبير، لكنه لم يكن يعلم أن تلك النقطة السلبية في تقريره المدرسي ستكون بوابة نحو عالم الكلمة والمسرح.
يروى أن أستاذه، بنظرة حانية، نصحه بالإكثار من القراءة، وهكذا بدأت رحلته. أول كتاب اقتناه كان “دمعة وابتسامة” لجبران خليل جبران، ثم توسعت مكتبته تدريجيًا لتشمل أعمال طه حسين وميخائيل نعيمة ونجيب محفوظ، لتصبح فيما بعد ملاذًا له من واقعه القاسي. هذه البداية المتواضعة لم تكن مجرد لحظة عابرة في حياته، بل كانت شرارة لإشعال موهبة كتب لها أن تهزّ خشبة المسرح العربي وتترك بصمة لا تُمحى.
الرحلة نحو الكلمة
بعد حصوله على الثانوية العامة عام 1959، غادر ونوس قريته إلى القاهرة بمنحة دراسية لدراسة الصحافة في كلية الآداب بجامعة القاهرة. في شوارع المدينة الضخمة، وجد نفسه منجذبًا إلى محاضرات الدكتور محمد مندور، حيث اكتشف عالم النقد الأدبي الذي فتح له أبواب المسرح.
هناك، في أروقة الجامعة، بدأ يكتب أولى محاولاته المسرحية بعنوان “الحياة أبدا” عام 1961، رغم أنها لم تُنشر آنذاك. كانت تلك الخطوة الأولى في رحلة طويلة كان يجهل وجهتها، لكنها كانت مليئة بالحماس والتطلع.
عاد إلى دمشق عام 1963، حيث عُيّن مشرفًا على قسم النقد في مجلة “المعرفة” التابعة لوزارة الثقافة. في تلك الفترة بدأ يكتب مقالات نقدية ومسرحيات قصيرة نُشرت في مجلات مثل “الآداب” و”الموقف العربي”.
عام 1965 أصدر أولى مجموعاته المسرحية بعنوان “حكايا جوقة التماثيل”، التي ضمت ست مسرحيات، منها “لعبة الدبابيس” و”جثة على الرصيف” و”الرسول المجهول في مأتم أنتيغونا”. كانت هذه الأعمال تعكس رؤيته الأولية للمسرح كأداة تعبير عن الواقع الاجتماعي، لكنها كانت مجرد مقدمة لما سيأتي لاحقًا.
ميلاد “مسرح التسييس“
عام 1966 حصل ونوس على إجازة دراسية وسافر إلى باريس لدراسة المسرح الأوروبي. في شوارع العاصمة الفرنسية كتب رسائل نقدية عن الحياة الثقافية هناك، ونشرها في مجلات عربية، لكن الحدث الأكبر كان نكسة حزيران 1967. تلك الهزيمة المؤلمة هزت وجدانه، فكتب مسرحيته الشهيرة “حفلة سمر من أجل خمسة حزيران”، التي اعتُبرت صرخة ضد الخذلان والاستسلام. هنا، تبنى ونوس مفهوم “مسرح التسييس”، وهو أسلوب يتجاوز مجرد عرض الواقع ليصبح أداة لتغييره. كان يؤمن بأن الأنظمة القمعية تستفيد من مجتمع لا يفكر سياسيًا، وأن تسييس المجتمع هو خطوة تقدمية جوهرية.
بمرور الوقت تحول مسرح ونوس إلى مرآة تعكس تناقضات المجتمع العربي، لكنه لم يقتصر على عكس عيوب المجتمع، بل سعى لكسر تلك الصورة وإعادة تشكيلها.
في “سهرة مع أبي الخليل القباني” (1973) استعاد دور الفن في مواجهة السلطة، بينما في “طقوس الإشارات والتحولات” (1994) غاص بعمق في قضايا الدين والجنس والسيطرة. “منمنمات تاريخية” (1994) قدمت تأملات نقدية في التاريخ العربي، و”الأيام المخمورة” (1997)، آخر أعماله، كانت وصية كتبها وهو يصارع المرض، محملة بالأمل رغم الألم.
لم يكن ونوس منخرطًا في أحزاب سياسية، لكنه كان مثقفًا ملتزمًا، يرى أن دوره يتجاوز الكتابة إلى مساءلة الواقع. قال ذات مرة “إننا محكومون بالأمل،” عبارة أصبحت شعارًا في خطابه ليوم المسرح العالمي 1996، حيث كان أول كاتب عربي يُكلف بهذا الشرف بعد توفيق الحكيم. كانت كلماته دعوة إلى استمرار النضال الفكري، حتى في أحلك الظروف.
في سنواته الأخيرة أصيب ونوس بالسرطان، لكنه رفض أن يتوقف قلمه. كتب خلال تلك الفترة أعماله الأعمق، كأنما كان يريد ترك كل ما لديه قبل الرحيل. في 15 مايو 1997، توفي عن عمر 56 عامًا، تاركًا إرثًا مسرحيًا وفكريًا عظيمًا. لم يكن مجرد كاتب، بل كان ضميرًا ثقافيًا قاوم الطغيان بالكلمة، وجعل من الخشبة منبرًا للحرية.
رمز تحت التهديد
بعد 28 عامًا من رحيله، عاد اسم ونوس إلى الواجهة في سياق غير متوقع. في ظل حكومة انتقالية جديدة تسعى لإعادة تشكيل الهوية الثقافية السورية، تسربت وثيقة في 2025 تشير إلى اقتراح يقضي بإعادة تسمية أكثر من 60 مدرسة في دمشق، منها مدرسة تحمل اسم ونوس.
زوجته، فايزة شاويش، عبّرت عن أسفها العميق، قائلة إن زوجها “رمز وطني لا ينتمي إلى نظام، بل يستحق التكريم.” اندلعت ضجة واسعة، لم تكن مجرد رد فعل على اسم مدرسة، بل تعبيرًا عن خوف من محو الرموز الثقافية التي شكلت وجدان السوريين.
تدخل وزير الثقافة، محمد ياسين صالح، ليؤكد بقاء الاسم، لكن القرار الأولي أثار تساؤلات. لاحقًا، أُعلن تراجع السلطات عن قرار رفع الاسم بعد ردود فعل غاضبة من المثقفين. لو لم يتراجعوا، كان ذلك سيُفسر كإشارة إلى استمرار منطق الإقصاء، وكان سيضعف مصداقية النظام الجديد في ادعائه الانفتاح. التراجع، رغم تأخره، أعطى فرصة لإعادة الاعتبار لرمزية ونوس، لكنه أيضًا أبرز حساسية المجتمع تجاه محاولات التلاعب بالذاكرة الثقافية.
إرث لا يُمحى
إرث سعدالله ونوس لا يقاس بعدد مسرحياته، بل بقدرته على إلهام أجيال. كان يرى المسرح فضاء لتحرير الإنسان من الخوف والتبعية، وسلاحًا ضد الصمت. أعماله، من “حفلة سمر” إلى “الأيام المخمورة”، لم تكن مجرد نصوص، بل دعوات للتفكير والتغيير. في زمن الانكسارات كتب ليقاوم، وترك أملًا يستمر في التوهج.
اليوم، ونوس يبقى رمزًا للمثقف المقاوم، والمسرح منبرًا للحرية. اسمه على مدرسة ليس مجرد تكريم، بل تذكير بأن الكلمة يمكن أن تكون مقاومة، وأن الثقافة هي الوطن الحقيقي الذي لا يمكن أن يُغلق. في عالم يتغير باستمرار، يبقى صوته نقيًا، يدعو إلى الأمل، ويحث على التساؤل: هل يمكن للفن أن يغير الواقع؟ سعدالله ونوس أجاب: نعم، وأثبت ذلك بكل خطوة خطاها على خشبة المسرح.