حزب الله يمد يده للسعودية.. ما هو المغزى
تاريخ طويل من الصراع العلني والخفي بين حزب الله والدول العربية القريبة والبعيدة عن حدود لبنان. يتمثل هذا الصراع في الفجوة الفكرية بينهما؛ فهناك عالم سني في السعودية ودول الخليج الأخرى وباقي الدول العربية، وثمة عالم شيعي في إيران وأجزاء من لبنان والبحرين والسعودية، وقلة قليلة في سوريا. كان لهذا الصراع الفكري آثار سلبية على توحيد العالم الإسلامي منذ عقود طويلة.
لقد فهمتُ أن ما صرّح به نائب الأمين العام لحزب الله، نعيم قاسم، مؤخرًا: “سأقترح اقتراحًا علنيًا.. أدعو المملكة العربية السعودية إلى فتح صفحة جديدة مع قوى المقاومة، من أجل مستقبل الأمة، وصون استقلالها وكرامتها في وجه مشاريع الهيمنة والتقسيم”، جاء في سياق استشعاره خطرًا محدقًا. ويبدو أن قاسم لجأ إلى السعودية في ظل استمرار مطالبة حزبه بتسليم سلاحه إلى الأمن اللبناني. لكن يبقى السؤال: هل تصريحات قاسم نابعة من مبدأ توحيد الأمة، أم أنها نزوة عابرة تزول بزوال الخطر؟
لا شك أن ما يجري اليوم في لبنان، والضغط الدولي على الرئيس اللبناني ميشال عون بشأن سلاح حزب الله، ينعكس سلبًا على وضع الحزب. فقد كان الحزب قبل السابع من أكتوبر في وضع مختلف، لكن أحواله تبدلت وأصبح اليوم في زاوية ضيقة يحاول قدر الإمكان الإفلات من الضغوط. فوجد نعيم قاسم ضالته في السعودية كطوق نجاة. المهم بالنسبة إلى حزب الله ليس توحيد الخطاب الإسلامي بشقيه الشيعي والسني، بل أن يعود الحزب إلى ما كان عليه قبل السابع من أكتوبر.
إيران لم تتخلَّ عن حزب الله لكنها تتركه يواجه ضغوطه منفردًا وسياسة النفس الطويل تعني أن الحليف يبقى حاضرًا حتى لو بدا غائبًا عن المشهد المباشر
لكن فلنتذكر أن العلاقة بين إيران وحزب الله من أكثر العلاقات العسكرية والسياسية تعقيدًا وتماسكًا في منطقة الشرق الأوسط. فمنذ تأسيس حزب الله في الثمانينيات من القرن الماضي، أصبح الحليف الأقوى لإيران في لبنان والمنطقة ككل، حيث قدّم لطهران ذراعًا عسكرية وسياسية فعّالة امتدت إلى مناطق النزاع الإقليمي. واليوم، تبدو إيران وحيدة بلا أذرع قوية في سوريا ولبنان، فيما تعاني أذرعها في فلسطين الأمرّين بعد الإبادة الجماعية في غزة. فحركتا حماس والجهاد الإسلامي تحاولان إيجاد مخرج من مأزق غزة عبر تقديم مبادرات لإنهاء الحرب في القطاع، وآخرها الرسالة التي تضمنت رؤية حماس وقدمت للرئيس الأميركي ترامب عبر قطر، وتقترح وقف الحرب 60 يومًا مقابل الإفراج عن نصف الرهائن. وهذا يعكس حجم الضغط الأممي والشعبي على حماس. بمعنى أن ما قبل السابع من أكتوبر يختلف جذريًا عما بعده، إذ يسعى الجميع إلى البحث عن حلفاء جدد للبقاء في صدارة المشهد.
في هذا السياق، حاولت إيران قدر الإمكان إبعاد خطر الحرب عنها. فجاء خطاب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان ووزير الخارجية عباس عراقجي ليؤكد أن إيران تسعى إلى “منع انتشار الحرب في المنطقة”. وفي مؤتمر صحافي عقده عراقجي في نيويورك، أجاب عن سؤال أحد الصحافيين حول ما إذا كان حزب الله قد طلب من إيران التدخل عسكريًا لدعمه، فقال: إن “حزب الله يتخذ قراراته بنفسه، وهو قادر على حماية نفسه وحماية لبنان وشعبه”.
في المحصلة، لا توجد مؤشرات على أن إيران تخلت كليًا عن حزب الله، والعكس صحيح. فطالما أن الحزب هو الذراع الأقوى لإيران في لبنان، فإن مسألة التخلي عنه غير واردة. الإيرانيون يعملون بالنَّفَس الطويل، واليوم ليست مرحلتهم، وربما تتغير المعادلة في السنوات المقبلة وتعود المياه إلى مجاريها. لقد ورثت إيران الحالية تاريخًا طويلًا من الصراعات، وتقلبت عليها حقب متعددة: الصفوية، والقاجارية، ونظام الشاه، وغيرها. وهذا دليل على تمسك النظام الحالي بأذرعه وعدم تنازله عنها. فابتعاده الظرفي عن الساحة وترك حزب الله ليحل مشاكله بنفسه لا يعني تنصله منه كليًا؛ إنها سياسة، والسياسة حبالها طويلة وملتوية.
لذلك، فإن مطالبة نعيم قاسم السعودية بتوحيد الرؤى ورص الصفوف ليست سوى محاولة للخروج من الضائقة التي ألمّت بحزب الله. فالفجوة الفكرية بين العالمين السني والشيعي لا تبددها طروحات قاسم أو غيره، إذ تبقى المصالح هي سيدة الموقف. وحتى اللحظة، لم نسمع رد فعل سعوديًا على إعلان زعيم حزب الله. ويبقى السؤال: هل أخذ نعيم قاسم الضوء الأخضر من إيران ليغازل السعودية، أم أنها مجرد رؤية شخصية للخروج من المعضلة التي يعيشها في هذه الأيام؟