تونس تحول الأزمات إلى فرص
لم يكن طريق التعافي سهلاً أمام تونس وهي تواجه تراكمات اقتصادية ممتدة منذ سنوات، لكن ما حمله تقرير وكالة التصنيف الائتماني “فيتش” الأخير من نظرة إيجابية تجاه الاقتصاد التونسي، يمثل شهادة دولية جديدة على أن الجهود المبذولة لم تذهب سدى. فبينما كانت التوقعات في السابق تميل إلى التشاؤم، جاء هذا التقييم ليؤكد أن الإصلاحات الصعبة التي اختارتها الحكومة بدأت تؤتي ثمارها، وأن تونس قادرة على تحويل أزماتها إلى فرص للنهوض.
منذ سنوات، ظل الاقتصاد التونسي يعاني من ضغوط هيكلية: عجز مزمن في الموازنة، وصعوبات في الحساب الجاري، واعتماد مفرط على التمويل الخارجي. لكن ما يلفت الانتباه اليوم هو أن هذه المؤشرات بدأت تتحسن تدريجيًا. فقد أشارت فيتش إلى انخفاض عجز الحساب الجاري، واستمرار مرونة الاستثمارات الأجنبية المباشرة، إضافة إلى صلابة المدفوعات من الشركاء الدوليين. هذه العناصر مجتمعة أسهمت في تعزيز الاحتياطيات النقدية ودعم السيولة الخارجية، وهو ما يعكس قدرة تونس على الصمود أمام الصدمات.
ما يبعث على التفاؤل هو أن هذه الجهود لم تعد مجرد سياسات تقنية، بل تحولت إلى قصة نجاح وطنية. فالمواطن التونسي، الذي تحمل سنوات من الضيق الاقتصادي، بدأ يلمس إشارات إيجابية
اللافت أن الوكالة رفعت تصنيف تونس الائتماني طويل الأجل من (CCC+) إلى (B+) مع نظرة مستقبلية مستقرة. هذه القفزة ليست مجرد رقم في تقرير مالي، بل هي رسالة ثقة موجهة إلى المستثمرين والأسواق العالمية، يفيد مضمونها بأن تونس تسير في الاتجاه الصحيح؛ فالمؤشرات التي كانت في الماضي مصدر قلق -مثل عجز الموازنة أو تدفقات الاستثمار- باتت اليوم أكثر استقرارًا، بل أظهرت قدرة على التكيف مع التحديات.
لقد كان لسياسة “التعويل على الذات” التي انتهجتها الحكومة دور محوري في هذا التحول. فبدلاً من الارتهان الكامل بالأسواق الخارجية أو انتظار برامج إنقاذ مشروطة، اختارت تونس أن تدير مواردها بصرامة، وأن تبحث عن حلول داخلية تعزز مناعتها الاقتصادية. صحيح أن المالية العامة لا تزال هشة، وأن الموازنة عرضة للصدمات الخارجية، لكن الأرقام تشير إلى أن احتياجات التمويل بدأت تنخفض تدريجيًا: من 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024 إلى توقعات بـ13.5 في المئة فقط في 2027. هذا التراجع يعكس نجاحًا في ضبط النفقات وتوجيه الموارد نحو الأولويات.
كما أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة، رغم التحديات السياسية والإقليمية، أثبتت قدرتها على الصمود. فقد سجلت تونس تدفقات صافية بلغت 1.4 في المئة من الناتج المحلي في 2024، مع توقعات بانتعاش أكبر بعد نمو بنسبة 54 في المئة خلال النصف الأول من 2025. هذه الأرقام تؤكد أن تونس لا تزال وجهة جاذبة لرؤوس الأموال الباحثة عن الاستقرار والفرص، وأن الإصلاحات التشريعية والتنظيمية التي أطلقتها الحكومة بدأت تثمر.
ولا يمكن إغفال الدور الذي لعبته الشراكات الدولية في دعم هذا المسار. فمدفوعات الشركاء، التي بلغت 2.2 في المئة من الناتج المحلي في 2024، ساعدت على تخفيف الضغط عن المالية العمومية، وأظهرت أن المجتمع الدولي مستعد لمساندة تونس حين يرى جدية في الإصلاح. وهنا تكمن القيمة الحقيقية للنظرة الإيجابية من فيتش: إنها ليست فقط اعترافًا بالتحسن، بل أيضًا دعوة لمزيد من الدعم والاستثمار.
لقد أثبتت تونس أن الإرادة السياسية قادرة على تغيير المعادلات، وأن الأزمات ليست قدرًا محتومًا، بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل
بالطبع، لا تزال هناك تحديات قائمة. فالموازنة تظل مثقلة بالرواتب والفوائد والدعم، والتي قد تستهلك 93 في المئة من الإيرادات بحلول 2027. كما أن أسعار السلع الأساسية، وعلى رأسها النفط، تمثل عامل مخاطرة دائمًا. لكن ما يميز المرحلة الحالية هو أن تونس لم تعد تتعامل مع هذه التحديات بردود فعل آنية، بل ضمن رؤية إصلاحية متكاملة. فالحكومة تعمل على ضبط سوق الصرف الأجنبي، والحفاظ على استقرار سعر الدينار، مع إدارة مرنة للاحتياطيات الدولية.
إن ما يبعث على التفاؤل هو أن هذه الجهود لم تعد مجرد سياسات تقنية، بل تحولت إلى قصة نجاح وطنية. فالمواطن التونسي، الذي تحمل سنوات من الضيق الاقتصادي، بدأ يلمس إشارات إيجابية: استقرار نسبي في الأسعار، تحسن في ثقة الأسواق، وعودة تدريجية للاستثمارات. وهذه كلها مؤشرات على أن الإصلاحات، مهما كانت مؤلمة، قادرة على فتح آفاق جديدة.
إن النظرة الإيجابية من فيتش ليست نهاية المطاف، بل هي بداية مرحلة جديدة؛ مرحلة تتطلب من تونس أن تواصل مسار الإصلاح بثبات، وأن تستثمر في نقاط قوتها: موقعها الجغرافي، كفاءاتها البشرية، ومواردها الطبيعية. كما تتطلب تعزيز الشفافية والحوكمة الرشيدة، حتى تتحول الثقة الدولية إلى استثمارات فعلية ومشاريع تنموية ملموسة.
لقد أثبتت تونس أن الإرادة السياسية قادرة على تغيير المعادلات، وأن الأزمات ليست قدرًا محتومًا، بل يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل. وما تقرير فيتش إلا شهادة على أن هذا البلد الصغير بحجمه، الكبير بإرادته، قادر على أن يكتب فصلاً جديدًا في تاريخه الاقتصادي.
اليوم، ومع هذا الاعتراف الدولي بجهودها، تبدو تونس أقرب من أي وقت مضى إلى استعادة مكانتها كاقتصاد صاعد في المنطقة.
إنها رسالة أمل، ليس فقط للتونسيين، بل لكل شعوب المنطقة: أن الإصلاح، مهما كان مؤلمًا، هو الطريق الوحيد لبناء اقتصاد قوي ومستقل. وتونس اليوم تقدم الدليل الحي على أن الإرادة السياسية، حين تقترن بالعمل الجاد، قادرة على صنع المعجزات، وأن الأزمات يمكن أن تكون نقطة انطلاق نحو مستقبل أفضل.