المدينة ككائن حي: تحولات العمران المصري

من مآذن القاهرة الفاطمية إلى أبراج العاصمة الإدارية.. مشهد يختصر ألف عام من التحولات.
الأربعاء 2025/09/17
بين الحق في الذاكرة والحق في التنمية

المدن ليست مجرد رص حجارة وطوابق مبان أو زخارف، ليست مجرد شوارع وأزقة وأماكن، إنها تمثل كيانات الشعوب وثقافاتها، بقديمها وجديدها المدن هي جوهر الحضارة الإنسانية وثمرة التاريخ. من هنا يأتي الوعي بضرورة استمرارية مدينة مثل القاهرة وحماية جزئها التاريخي وصيانته وتقديم رؤى معاصرة لإنشاء أجزاء جديدة، وهنا يكمن التحدي بين هوية القديم ومغامرة الجديد وطموحاته.

مشهد يصعب أن يُمحى من الذاكرة. يكفي أن تراه مرة واحدة ليظل حاضرًا في ذهنك إلى الأبد. تلك اللحظة التي تتسلل فيها خيوط الشمس بين مآذن القاهرة الفاطمية، لتنعكس على حجارة صمدت مئات السنين، فتمنحها حياة جديدة كل صباح. في خان الخليلي يفتح الحرفيون أبواب دكاكينهم، وتتصاعد رائحة القهوة من المقاهي العتيقة، بينما يتجول السياح ببطء متعمد بين الأزقة الضيقة، يلتقطون صورًا لواجهات تروي قصصًا من عصور متعاقبة.

هنا، في قلب القاهرة التاريخية، تدرك أن الزمن ليس خطًا مستقيمًا، بل طبقات متراكمة، كل واحدة منها تحكي حكاية حضارة وأجيال عاشت ومضت لكنها تركت أثرها محفورًا في الحجر ومعلقًا في الهواء.

القديم والجديد

سر هذا السحر أن القاهرة التاريخية لم تولد دفعة واحدة، بل تأسست عام 969 ميلاديّا على يد جوهر الصقلي كعاصمة للفاطميين، ثم تحولت عبر العصور إلى مركز سياسي وثقافي عالمي، ما منحها لقب “مدينة الألف مئذنة”. هي ليست مدينة واحدة، بل مدن متراكبة: الفسطاط، القاهرة الفاطمية، القاهرة المملوكية، ثم القاهرة الخديوية.

كل طبقة عمرانية تركت بصمتها في النسيج الحضري، لتشكل لوحة معقدة من العمارة والذاكرة. ومع القرن التاسع عشر، ومع مشروع الخديوي إسماعيل، بدأت القاهرة تتبنى أنماطًا أوروبية في العمارة والتخطيط، فظهر لأول مرة التباين بين “القاهرة القديمة” و”القاهرة الحديثة”.

◙ من أزقة القاهرة إلى مدن المستقبل

لكن خلف هذا الجمال البصري والروحي، يختبئ واقع أكثر قسوة. الأزقة مكتظة إلى حد الاختناق، البنية التحتية منهكة، والأسواق العشوائية تزاحم المعالم الأثرية وتخنقها. بعض المباني التاريخية تتآكل جدرانها بصمت، تنتظر يدًا تمتد لإنقاذها قبل أن تنهار. هذه المساحات ليست مجرد أحجار صامتة، بل ذاكرة أمة، ومع ذلك تواجه خطر التآكل المادي والرمزي معًا. التحدي هنا لا يقتصر على الحفاظ على المظهر الخارجي، بل يمتد إلى حماية الروح التي تجعل من القاهرة التاريخية كيانًا حيًا، لا مجرد متحف مفتوح للسياح.

وعلى بعد عشرات الكيلومترات تنهض العاصمة الإدارية الجديدة، المشروع الضخم الذي أُعلن عنه عام 2015 على مساحة 170 ألف فدان. مدينة أراد لها بانوها أن تكون رمزًا لطموح الدولة نحو المستقبل: حي حكومي، برلمان، قصر رئاسي، مدينة طبية ورياضية، وحديقة مركزية بمساحة 8 كيلومترات مربعة. شوارع واسعة، أبراج زجاجية، مساحات خضراء مخططة بعناية. كل شيء يوحي بالنظام والانفتاح على الغد. ومع ذلك، يحذر بعض الخبراء من أن امتداد العمران بين القاهرة والعاصمة الجديدة قد يؤدي إلى اندماجهما، وبالتالي انتقال “أمراض القاهرة” -الزحام، التلوث، ضعف الصيانة- إلى المدينة الوليدة.

هذا التباين بين القاهرة التاريخية والمدن الجديدة يكشف عن معضلة حضرية عميقة: كيف نصنع مدنًا تستجيب لمتطلبات الحياة العصرية دون أن تفقد هويتها؟ في القاهرة، التحدي هو إنقاذ النسيج العمراني والاجتماعي من التدهور، مع دمج خدمات حديثة تحترم الطابع التاريخي. وفي المدن الجديدة، التحدي هو غرس روح مصرية في بيئة عمرانية وُلدت من الصفر، حتى لا تصبح مجرد نسخة مستوردة من نماذج عالمية.

إعادة تخطيط المدن المصرية ليست مسألة هندسية فحسب، بل مشروع ثقافي بامتياز. في القاهرة، يمكن أن يبدأ الأمر بترميم المباني التاريخية باستخدام مواد وأساليب تحافظ على أصالتها، مع إدخال خدمات حديثة -من شبكات صرف وإنارة وإنترنت- بطريقة لا تتعارض مع الطابع المعماري. الأحياء التاريخية يجب أن تظل نابضة بالحياة، لا أن تتحول إلى مناطق سياحية معزولة عن سكانها الأصليين. إشراك المجتمع المحلي في قرارات التطوير أمر حاسم، لأن الحفاظ على المكان لا ينفصل عن الحفاظ على من يعيشون فيه.

ولعل ما يبعث على الأمل أن المجتمع نفسه بدأ يتحرك؛ مبادرات شبابية ومجتمعية ظهرت في السنوات الأخيرة لتوثيق التراث العمراني المهدد بالهدم، مثل مقابر القاهرة التاريخية، باعتبارها جزءًا من الذاكرة الجمعية وليست مجرد أحجار. هذه المبادرات تعكس وعيًا متزايدًا بأن “الحق في المدينة” لا يقتصر على السكن والعمل، بل يشمل الحق في الحفاظ على الذاكرة والهوية.

◙ التباين بين القاهرة التاريخية والمدن الجديدة يكشف عن معضلة حضرية: كيف نصنع مدنا عصرية دون أن تفقد هويتها

أما المدن الجديدة فهي فرصة لتجريب نماذج تخطيطية مبتكرة، لكن بشرط أن تستلهم من التراث المصري عناصرها الجمالية والوظيفية. يمكن دمج المشربيات والزخارف الهندسية في العمارة الحديثة، وتخصيص مساحات عامة للفنون والحرف المحلية، بحيث يشعر السكان الجدد بأنهم يعيشون في مدينة مصرية بروحها، لا في نسخة معولمة بلا جذور.

الفن والعمارة هنا ليسا مجرد عناصر جمالية، بل أدوات لصياغة هوية حضرية متوازنة. في القاهرة التاريخية، يمكن للجداريات والعروض المسرحية والمهرجانات أن تعيد الحياة إلى الساحات العامة، وتجعل من التراث تجربة معاشة. وفي المدن الجديدة يمكن للأعمال الفنية التفاعلية أن تربط السكان بتاريخهم، وتخلق إحساسًا بالانتماء حتى في بيئة لم تعرف بعد تراكم الزمن.

الربط بين القديم والجديد يتطلب أيضًا بنية تحتية للنقل العام تربط القاهرة التاريخية بالمدن الجديدة، لتشجيع التفاعل البشري والثقافي بينهما. مناطق انتقالية تجمع بين الطابعين يمكن أن تجعل الانتقال بين الأزقة الضيقة والشوارع الواسعة أكثر سلاسة، وتمنع الانفصال النفسي بين الماضي والمستقبل.

نموذج مصري فريد

◙ تباين يكشف عن معضلة حضرية عميقة
◙ تباين يكشف عن معضلة حضرية عميقة

القاهرة التاريخية تمثل التحدي الأكبر، إذ يتعين الحفاظ على نسيجها العمراني والاجتماعي المعقد دون تجميده أو تدميره. النجاح هنا يعني إعادة إحياء الأسواق التقليدية، وتحسين البنية التحتية، وتنظيم المرور، مع الحفاظ على الطابع البصري. والقيمة الاقتصادية للتراث لا تقل أهمية عن قيمته الرمزية، فالقاهرة التاريخية ليست فقط إرثًا ثقافيًا، بل مورد اقتصادي ضخم عبر السياحة الثقافية والحرف التقليدية.

أما العاصمة الإدارية والمدن الجديدة فتمثلان فرصة لاختبار كيف يمكن بناء مدينة جديدة من الصفر بروح مصرية واضحة. النجاح هناك يعني دمج الرموز الثقافية في التصميم، وخلق فضاءات عامة تشجع على التفاعل الاجتماعي، وتجنب أن تتحول المدينة إلى مجرد مركز أعمال بلا حياة. ويمكن لهذه المدن أن تكون مختبرًا لتجريب حلول بيئية مستدامة: طاقة شمسية، مساحات خضراء، نقل عام نظيف. وإذا استلهمت هذه المدن من التراث المحلي، فإنها ستجمع بين الأصالة والحداثة في آن واحد.

بين أزقة القاهرة العتيقة وشوارع العاصمة الإدارية الواسعة هناك فرصة لصياغة نموذج حضري مصري فريد يروي للعالم حكاية بلد يعرف كيف يحافظ على ماضيه وهو يخطو بثقة نحو الغد

لكن كل ذلك يتطلب إرادة سياسية، ورؤية تخطيطية طويلة المدى، والأهم من ذلك أنه يتطلب وعيًا مجتمعيًا بأن المدينة ليست مجرد مشروع عمراني، بل كائن حي يتشكل من ذاكرة المكان وسلوك الناس فيه. فإذا فقدت المدينة هويتها، فقدت روحها، حتى لو كانت مبانيها لامعة وحديثة.

التجارب العالمية تقدم دروسًا مهمة: إسطنبول نجحت في دمج أحيائها التاريخية مع الحديثة عبر مشاريع ترميم واسعة. فاس المغربية أعادت إحياء مدينتها العتيقة عبر دعم الحرف وربطها بالسياحة الثقافية. وباريس مثال على مدينة حافظت على مركزها التاريخي، بينما بنت أحياء حديثة في الضواحي. هذه النماذج تثبت أن الحفاظ على التراث لا يعني تجميده، بل دمجه في دورة الحياة المعاصرة.

بين أزقة القاهرة العتيقة وشوارع العاصمة الإدارية الواسعة، هناك فرصة لصياغة نموذج حضري مصري فريد، يروي للعالم حكاية بلد يعرف كيف يحافظ على ماضيه وهو يخطو بثقة نحو الغد. هذا النموذج لن يولد من قرارات فوقية فقط، بل من حوار مستمر بين الدولة والمجتمع والمبدعين، ومن إيمان بأن التراث والحداثة ليسا خصمين، بل هما شريكان في صياغة مستقبل المدن المصرية.

8