الصحبة الحقيقية ليست هنا!
لا أحد يمكنه أن ينكر أننا في زمن تسير فيه البشرية نحو تعزيز قيم الفردانية وانفصال الأنا عن المجموعة، زمن تجندت فيه وسائل الإعلام الحديثة لتقول لكل منصت لها، مدمن عليها: أنت جيد كما أنت، على من يريدك في حياته أن يتقبلك بعيوبك قبل مميزاتك، لا تحتاج أن تصلح نفسك من أجل أحد، وإن رفضك الجميع، لن يضرك شيء لو عشت وحيدا.
كلما فتحت مواقع التواصل، ستسمع من هذه النداءات الكثير، نداءات تغريبية ستدمر تماسك المجتمعات إن لم نجند لمواجهتها، فالحياة دون علاقات عميقة لا جدوى منها، الإنسان كائن اتصالي بالأساس وكما يقول المثل “حتى الجنة من دون ناس ما تنداس”.
أكتب هذه الكلمات، وأنا أقرأ خبرا عن تطبيقات ذكاء اصطناعي تساعد البشر على إيجاد أصدقاء جدد، ميزتها أنها تستخدم خوارزمياتها الدقيقة لمطابقة المستخدمين بعضهم مع بعض بعد حضورهم مناسبات مختلفة، في محاولة لفهم الكيمياء البشرية. بعد ذلك، تتاح للجميع فرصة إعلام التطبيق بالأشخاص الذين يرغبون في لقائهم مجددا أو من لا يرغبون في لقائهم مرة جديدة وسبب ذلك.
إنه ابتكار مثير للانتباه، فبعد مواقع التواصل التي عمقت زيف البشر ومثلما جمعتنا بأصدقاء جيدين وضعتنا وجها لوجه مع متلونين وخادعين، نحن اليوم نسلم أنفسنا للذكاء الاصطناعي ليختار لنا أصدقاء.
ما لفت انتباهي أكثر قول أحد مستخدمي تطبيق أجنبي يدعى 222: “ما يعجبني في التطبيق هو أنني أكتشف أشخاصا حقيقيين، لا الصورة التي يحاول الناس إظهارها عن أنفسهم عبر الإنترنت”.
الصداقة الحقيقية لم تكن في وسائل التواصل، ولن تكون هناك، في تطبيقات الذكاء الاصطناعي، حتى وإن عرفتنا وتنبأت بما نحب ونكره وجمعتنا على أساس ذلك، فأغلبنا على مواقع التواصل وفي عالمه الافتراضي لا يشبه نفسه الحقيقية.
الصداقة أعمق من تطبيقات تكنولوجية، ومن ترند واستعراض وتظاهر، كم من أناس غمرونا بصورهم وهم أصدقاء جيدون ثم أصبحوا ترند لأنهم “فضحوا” بعضهم البعض وتشاجروا في بث مباشر وتحدث كل واحد منهم عن الآخر بأبشع العبارات.
الصداقة، في جوهرها، ليست مجرد علاقة اجتماعية عابرة، بل هي رابطة إنسانية عميقة تُبنى على الثقة، والصدق. هي ذاك الملاذ الذي نلجأ إليه حين تضيق بنا الحياة، وتلك المرآة الصافية التي نرى فيها أنفسنا دون تزييف أو خجل.
في زمنٍ أصبحت فيه العلاقات تُقاس بالمصالح المادية، تراجعت قيمة الصداقة الحقيقية أمام زيف العلاقات الرقمية. خلطت تطبيقات التعارف بين المعرفة العابرة والصداقة العميقة، فبات الكثيرون يظنون أن المحادثة اليومية كافية لتكوين صديق، لكن الصداقة فعليا تنمو في المواقف البطيئة الصامتة والمتراكمة عبر الزمن فالزمن يعري الحقيقة وتقلبات الحياة كفيلة ليُختبر الصديق ويُعرف معدنه الحقيقي.
صحيح أن العالم الافتراضي قرّب المسافات بيننا لكنه عمق الزيف والخداع، باعد بين القلوب وحول العلاقات لمحادثات باردة تفتقر للكثير من مميزات التواصل المباشر.
وفي زمن المتغيرات الكثيرة، الصديق ليس ذلك الذي تعرفك عليه تطبيقات التواصل، فتجاملون بعضكم بين الحين والآخر، أو ذلك الذي سترشحه لك تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بل هو ذاك الذي يتعرف عليك كل يوم، يعطيك ويأخذ منك، كما تعطيه وتأخذ منه، مشاعر وأفكار وقيم ودعم، هو ذلك الشخص الذي يبقى ثابتًا حين تتغير كل الأشياء، صادقًا حين يَكذب الجميع، قريبًا حين يبتعد الكل.
الصديق الحقيقي هو من يعرف طريق قلبك، حتى عندما تكون الطرق كلها مغلقة، ولن يعرف ذلك الطريق شخص ترك الدنيا الحقيقية وانشغل بالافتراضي، ترك العمق وانشغل بالقشرة الخارجية. وكما يقول جبران خليل جبران: “لا يكن لكم في الصداقة من غاية ترجونها غير أن تزيدوا في عمق نفوسكم”.