الإعلام والاقتصاد: كيف تصنع اللغة مناخ الاستثمار في تونس

النقد ضروري بل هو واجب لكن النقد شيء والتيئيس الممنهج شيء آخر.. النقد البنّاء يفتح أبوابًا للحلول أما التيئيس فيغلق كل الأبواب ويترك الناس في العتمة.
الثلاثاء 2025/09/30
الثقة قبل الأرقام

الأرقام القاسية ليست أخطر مظاهر الأزمة الاقتصادية في تونس ولا حتى السياسات المترددة. أخطر المظاهر هي اللغة السوداوية التي تتبناها بعض التقارير الإعلامية والمنابر السياسية. لغة لا ترى إلا الخراب ولا تنطق إلا باليأس. بدل أن يكون الإعلام قوة اقتراح ورقابة بنّاءة، يتحول في كثير من الأحيان إلى ماكينة تيئيس، تكرر ليل نهار أن البلاد على حافة الانهيار وأن لا أفق لأي إصلاح. هذا الخطاب لا يكتفي بتغذية الإحباط الشعبي، بل يزرع شعورًا عامًا بالعجز ويعمّق الهوة بين الشارع والسلطة التنفيذية. الأخطر أن هذه الصورة القاتمة لا تبقى محصورة في الداخل، بل تنتقل إلى الخارج حيث يتابع المستثمرون الأجانب المشهد عبر وسائل الإعلام. وحين يسمع المستثمر خطابًا يائسًا يشيع أن تونس بلد بلا مستقبل، فإنه يتردد في ضخ أمواله، حتى وإن كانت هناك فرص حقيقية للنمو. هكذا تتحول لغة التيئيس إلى عامل اقتصادي مدمّر، تضعف الثقة وتبعد الاستثمارات وتزيد من صعوبة مهمة الحكومة.

النقد ضروري، بل واجب، لكن النقد شيء والتيئيس الممنهج شيء آخر. النقد البنّاء يفتح أبوابًا للحلول، أما التيئيس فيغلق كل الأبواب ويترك الناس في العتمة. إن معركة تونس اليوم ليست فقط مع الأرقام، بل مع اللغة التي يوصف بها الواقع. الاستسلام لخطاب التيئيس، يقتل الثقة قبل أن يقتل الأمل، ويحوّل الأزمة من تحدٍّ قابل للإصلاح إلى قدر محتوم.

لا يمكن اختزال الأزمة الاقتصادية التونسية في نسب الدين أو معدلات البطالة أو مؤشرات التضخم وحدها، فهذه الأرقام مهما بلغت قسوتها تبقى انعكاسًا لجوهر أعمق هو أزمة الثقة

لكن الطريق ليس مسدودًا. فالموارد البشرية التي تملكها تونس، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي، وإمكاناتها في مجالات السياحة والطاقة المتجددة والصناعات التحويلية، كلها عناصر تجعل من الممكن رسم مسار مختلف. الإصلاحات ليست مستحيلة، بل تحتاج إلى ترتيب الأولويات وتوزيع الأعباء بعدالة. أول ما يمكن أن يشكل مدخلًا للحل هو إصلاح المالية العمومية بطريقة متدرجة وعادلة. الدعم الشامل الذي يستهلك مليارات من الميزانية يمكن أن يتحول إلى دعم موجه للفئات الهشة عبر تحويلات نقدية مباشرة، ما يخفف العبء عن الدولة دون أن يترك الفئات الضعيفة مكشوفة. المؤسسات العمومية الخاسرة لا يمكن أن تبقى عبئًا دائمًا، ويجب إعادة هيكلتها عبر الشراكات أو الخصخصة الجزئية أو تحسين الحوكمة. أما القاعدة الجبائية، فيجب أن تتوسع بعدالة عبر محاربة التهرب الضريبي ودمج الاقتصاد الموازي الذي يمثل أكثر من ثلث الناتج المحلي.

الحل الثاني يكمن في التعليم والتشغيل. لا يمكن لتونس أن تخرج من أزمتها دون ربط التعليم بسوق العمل. المناهج تحتاج إلى تحديث جذري يركز على المهارات التطبيقية والرقمية، والتعليم المهني والتقني يجب أن يصبح مسارًا رئيسيًا لا ثانويًا. برامج التدريب المزدوج التي تجمع بين الدراسة والعمل في الشركات يمكن أن تفتح آفاقًا جديدة للشباب. دعم ريادة الأعمال عبر قروض ميسرة وحاضنات أعمال يمكن أن يحول الشباب من باحثين عن وظائف إلى خالقين لها. هذه الإصلاحات التعليمية والتشغيلية قد لا تعطي نتائج فورية، لكنها وحدها القادرة على معالجة جذور البطالة.

الاستثمار يمثل بدوره رافعة أساسية. البيروقراطية المعقدة والفساد الإداري يطردان المستثمرين، والحل يكمن في رقمنة الإدارة وتبسيط الإجراءات. إنشاء مناطق صناعية ولوجستية متخصصة في الطاقات المتجددة أو الصناعات الغذائية أو التكنولوجيا يمكن أن يجذب استثمارات نوعية. الحوافز الضريبية يجب أن ترتبط بالتشغيل الفعلي للشباب، لا بمجرد ضخ أموال في مشاريع لا تخلق فرص عمل. الاستثمار الأجنبي مهم، لكن الاستثمار المحلي لا يقل أهمية، ويجب أن يحظى بالدعم نفسه.

على المدى القصير، يمكن إطلاق برامج تشغيل سريعة الأثر. مشاريع الأشغال العامة في البنية التحتية والطاقة الشمسية وصيانة المدارس والمستشفيات يمكن أن تستوعب آلاف الشباب. عقود تدريب مدفوعة الأجر لمدة عام مع القطاع الخاص، بتمويل مشترك بين الدولة والمستثمرين، يمكن أن تفتح أبوابًا جديدة للتشغيل. الاقتصاد الاجتماعي والتضامني يمكن أن يكون رافعة لتشغيل الفئات المهمشة في المناطق الداخلية. هذه البرامج قد لا تحل الأزمة جذريًا، لكنها تخفف من حدتها وتمنح الشباب بعض الأمل.

الموارد البشرية التي تملكها تونس وموقعها الجغرافي الاستراتيجي وإمكاناتها في مجالات السياحة والطاقة المتجددة والصناعات التحويلية كلها عناصر تدعوا إلى التفاؤل

لكن حتى نفهم لماذا هذه الحلول ضرورية، يجب أن نعود إلى طبيعة الأزمة. الدين العام بلغ مستويات مرتفعة تقارب 80% من الناتج المحلي، وهو رقم ثقيل بالنسبة لاقتصاد ناشئ محدود الموارد. خدمة الدين تستهلك أكثر من ربع الميزانية، ما يقلص إمكانات الاستثمار في التنمية. البطالة العامة تناهز 15%، لكن الأخطر أن بطالة الشباب تتجاوز 35%، ما يعني أن جيلًا كاملًا يقف على هامش الدورة الاقتصادية. التضخم الذي تراجع إلى نحو 5% لم ينعكس على القدرة الشرائية، لأن أسعار الغذاء والدواء والطاقة ما زالت مرتفعة. العجز التجاري المزمن، الذي بلغ نحو 4.8 مليار دولار في الأشهر الثمانية الأولى من 2025، يكشف عن خلل هيكلي في النموذج الاقتصادي، حيث تظل تونس معتمدة على الاستيراد بشكل مفرط بينما صادراتها محدودة القيمة المضافة.

ولكن، الأخطر من كل ذلك هو أزمة الثقة. المواطن لا يثق في قدرة الدولة على تحسين أوضاعه، المستثمر لا يثق في استقرار القوانين، والشركاء الدوليون لا يثقون في جدية الإصلاحات. هذه الأزمة غير الملموسة هي التي تجعل الأرقام أكثر قسوة. فحتى لو تحسنت بعض المؤشرات، فإن غياب الثقة يجعل أثرها محدودًا. الحكومة التونسية تجد نفسها في وضع بالغ الصعوبة. فهي مطالبة بإقناع صندوق النقد الدولي والمانحين الدوليين بجدية الإصلاحات حتى تفتح أبواب التمويل الخارجي، وفي الوقت نفسه مطالبة بالحفاظ على السلم الاجتماعي في ظل رفض شعبي لأي إجراءات تقشفية تمس الدعم أو الأجور. هذه المعادلة المعقدة تجعل كل قرار اقتصادي محفوفًا بالمخاطر. التضامن مع موقف الحكومة لا يعني إعفاءها من المسؤولية، بل يعني الاعتراف بأن هامش المناورة ضيق وأن أي إصلاح يتطلب شجاعة سياسية وحكمة في التنفيذ.

في النهاية، لا يمكن اختزال الأزمة الاقتصادية التونسية في نسب الدين أو معدلات البطالة أو مؤشرات التضخم وحدها، فهذه الأرقام مهما بلغت قسوتها تبقى انعكاسًا لجوهر أعمق هو أزمة الثقة. حين تغيب الثقة بين المواطن والدولة، وبين المستثمر والسوق، وبين تونس ومحيطها الدولي، تصبح الأرقام جدران مغلقة. لكن حين تُستعاد هذه الثقة، يمكن للأرقام نفسها أن تتحول إلى جسور نحو المستقبل. تونس ليست بلا موارد ولا بلا إمكانات، بل على العكس، تملك من الطاقات البشرية والموقع الجغرافي والفرص الاقتصادية ما يجعل الأمل ممكنًا. الطريق صعب، لكنه ليس مسدودًا. الإصلاحات قد تكون مؤلمة، لكنها السبيل الوحيد لاستعادة التوازن. وما دامت الثقة قابلة للبناء، فإن الأرقام مهما بدت قاتمة اليوم يمكن أن تحمل غدًا ملامح تحول حقيقي. ولهذا فإن تونس، بموقعها الجغرافي الاستثنائي الذي يجعلها بوابة المتوسط، وبكفاءاتها الشابة التي تستعين بها دول الجوار وأوروبا، وبما تملكه من إمكانات هائلة في الطاقة البديلة والسياحة، تظل قادرة على أن تكتب قصة مختلفة. الأمل ليس ترفًا بل خيار واقعي إذا ما تحولت الإرادة إلى فعل، وإذا ما استبدلنا لغة التيئيس بخطاب يفتح نوافذ المستقبل بدل أن يغلقها.

6