الإسلاميون في السودان بين التيه وإعادة التموضع
منذ سقوط نظام المؤتمر الوطني في ثورة ديسمبر، دخلت الحركة الإسلامية السودانية في حالة من التيه والارتباك. المشروع الذي كانت تتبجّح به لثلاثة عقود انهار في لحظة تاريخية، تاركًا وراءه إرثًا ثقيلًا من الدماء والفساد والدمار الاقتصادي. ومع ذلك، لم تفقد هذه الحركة شهيتها للسلطة، ولم تتوقف عن محاولاتها المستمرة لإعادة إنتاج نفسها في ثوب جديد.
آخر هذه المحاولات تمثّل في ما يُعرف بـ”التيار الإسلامي العريض” الذي يقوده علي كرتي، الأمين العام للحركة الإسلامية، في خطوة ظاهرها توحيد الصفوف، وباطنها تأسيس جبهة جديدة لاستعادة مواقع النفوذ بعد أن لفظهم الشارع وأسقط دولتهم. هذه الفكرة جاءت كحيلة جبهويّة لتجميع الشتات، لكنها سرعان ما تحوّلت إلى ساحة صراع داخلي بين تيارات الإسلاميين أنفسهم.
هذا المناخ المشحون ينذر بصدام عنيف قد يتجاوز الخطاب السياسي ليأخذ شكلًا عسكريًا على الأرض خاصة وأنّ كل تيار يسعى لتحشيد عضويته وتكوين قوة مسلحة تمكّنه من السيطرة على المشهد
الحركة الإسلامية اليوم ليست جسدًا واحدًا كما كانت في الماضي، بل هي أشلاء تتناحر فيما بينها. أكبر هذه التيارات هو الذي يقوده أحمد هارون، المطلوب للعدالة الدولية، والمدعوم من علي كرتي. في المقابل، هناك تيار يقوده إبراهيم محمود، وثالث يتزعمه عبد الحي يوسف، الرجل الذي اشتهر بخطابه التكفيري، وسبق أن كفّر البرهان نفسه، معلنًا أن الحركة الإسلامية تخترق مكتب رئيس مجلس السيادة بكوادرها السرية.
هذه المجموعات لا يجمعها سوى العداء للثورة وقواها المدنية، لكن ما يفرّقها أكبر بكثير: نزاع على السلطة، وتنافس على من يملك الكلمة العليا في مستقبل السودان. وهكذا تحوّل الإسلاميون من قوة حاكمة إلى جماعات متصارعة، كل منها تريد فرض نفسها باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للمشروع الإسلامي، وهو مشروع لم يجلب للسودانيين سوى الفقر والحروب والانقسامات.
إن الصراع بين هذه التيارات تسوده لغة التخوين والإقصاء. كل مجموعة ترى الأخرى خائنة للمشروع ومتفلتة من المنهج. عبد الحي يوسف يتّهم غيره بالضعف والتنازل، وأحمد هارون يقدّم نفسه باعتباره الأحق بالقيادة لأنه كان الذراع الأمنية والسياسية للمؤتمر الوطني، بينما يحاول كرتي أن يفرض شخصيته باعتباره الأب الروحي للتنظيم بعد غياب البشير.
هذا المناخ المشحون ينذر بصدام عنيف بينهم، صدام قد يتجاوز الخطاب السياسي ليأخذ شكلًا عسكريًا على الأرض، خاصة وأنّ كل تيار يسعى لتحشيد عضويته وتكوين قوة مسلحة تمكّنه من السيطرة على المشهد إذا ما سنحت الفرصة.
ما يجري داخل الحركة الإسلامية اليوم ليس بداية نهضة كما يتوهمون، بل هو أقرب إلى صراع الديوك الأخيرة قبل أن تنطفئ الأضواء وينتهي وهم الدولة الإخوانية إلى الأبد
في خضم هذا الصراع، يحاول بعض الإسلاميين التسلّل من جديد عبر التحالف مع العسكريين. القيادي في المؤتمر الوطني حامد ممتاز صرّح بوضوح أنّ العسكريين، ويقصد البرهان ومجلسه، لا يتيحون لرئيس الوزراء فرصة العمل. هذا التصريح ليس عن قناعة، بل هو جزء من لعبة سياسية مكشوفة: المؤتمر الوطني يريد أن يضفي على الحكومة القائمة أي نوع من الشرعية، ولو كانت صورية، حتى يلهي العالم عن جرائمهم الماضية، ويكسب وقتًا لإعادة ترتيب صفوفه.
بعبارة أخرى، هم لا يسعون لتمكين رئيس الوزراء بقدر ما يسعون لإيجاد ستار سياسي يحميهم من غضب الشارع ومن ضغوط المجتمع الدولي.
المشهد برمّته يكشف عن مأزق حقيقي تعيشه الحركة الإسلامية في السودان. فبعد أن كانت متسلّطة ومهيمنة، أصبحت اليوم مفككة ومتناحرة. وبعد أن كانت تفرض خطابها على الدولة والمجتمع، صارت عاجزة حتى عن إدارة خلافاتها الداخلية.
الطريق الذي اختاروه – طريق الصراع المسلّح والتخوين والالتفاف على مطالب الثورة – لن يقود إلا إلى نهايتهم المحتومة. فالسودان الجديد الذي وُلد من رحم ديسمبر لن يسمح بعودة الاستبداد تحت أي لافتة، إسلامية كانت أم عسكرية.
وهكذا، فإنّ ما يجري داخل الحركة الإسلامية اليوم ليس بداية نهضة كما يتوهمون، بل هو أقرب إلى صراع الديوك الأخيرة قبل أن تنطفئ الأضواء وينتهي وهم الدولة الإخوانية إلى الأبد وتنتصر شعارات ثورة ديسمبر.