إيران ما بعد الحرب رهن صراع جيل "زد" واللطم الحسيني

المعوقات التي تصطدم بها حركة "زد" شديدة التعقيد والعناد ويحتاج تفكيك شبكة الصدّ الحسيني إلى سياسات متعددة البدائل والإستراتيجيات فهي معركة كسر عقائد وإرادات لا كسر اتجاهات اجتماعية أو سياسية.
السبت 2025/08/23
ثقافة الحسينيات

لم تتلاشَ الاحتجاجات على حكم الملالي طيلة فترة استيلائهم على السلطة في إيران، ولكن جميع تلك الاحتجاجات باءت بالفشل، ولم تُسجّل اختراقًا يهزّ السلطة بما يتجاوز قلقًا عابرًا، أو يُجبرها على الاعتراف بالمعارضة والاستجابة لدعواتها الإصلاحية.

وفي عام 2022، ظهرت حركة جديدة أُطلق عليها اسم “جيل زد”، إثر مقتل الفتاة مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. وقد ناهضت هذه الحركة سلطات الملالي بقوة واتساع، وقادت احتجاجات شكّلت منعطفًا تاريخيًا في مسيرة المعارضة الإيرانية.

تميّزت هذه الحركة بأن منتسبيها من الشبان والمراهقين، وقد تشكّلوا بوحي من فضاء وسائل التواصل الاجتماعي التي أغرتهم بأنماط حياة الشبان في العالم المتحرر، وعمّقت إحساسهم بتخلّف نظام حكم الملالي وقسوة قيوده على حيوية شبابهم. فاشتركوا في مظاهرات تفجّرت احتجاجًا على مقتل مهسا.

ظهر أتباع هذه الحركة في خضم تلك المظاهرات يحملون حقائب الظهر الخاصة بهم، ويرتدي أغلبهم ملابس سوداء، وكانوا يرددون ترنيمة فتيات “زد”: “رجال الدين ضلّوا،” فعمّت أرجاء إيران. واستقطبت هذه الحركة تيارًا نسائيًا خلع حجابه، وتيارًا جامعيًا، وراح جميعهم يكتبون الشعارات المناهضة للملالي على الجدران، ويشوّهون صورهم وينشرونها على صفحات التواصل الاجتماعي.

سلطات الملالي أدركت خطورة هذه الحركة، فتوحّشت في قمعها، متهمةً إياها بإثارة الفوضى وتنفيذ أجندة خارجية معارضة. وهذا ديدن الدكتاتوريات في استحلاب تهمة الخيانة لمعارضيها تمهيدًا لقمعهم واستئصالهم

أدركت سلطات الملالي خطورة هذه الحركة، فتوحّشت في قمعها، متهمةً إياها بإثارة الفوضى وتنفيذ أجندة خارجية معارضة. وهذا ديدن الدكتاتوريات في استحلاب تهمة الخيانة لمعارضيها تمهيدًا لقمعهم واستئصالهم. وحينها قال الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي: إن المتظاهرين هم أعداء الثورة الإسلامية وإيران، وهم ينفذون مخطط مؤامرة تهدف إلى إعاقة البلاد عن التقدّم، ويعملون على عزلها وإغراقها في الفوضى.

ودعّم رئيس البرلمان الإيراني توجّه رئيسه، فدعا الأجهزة الأمنية إلى قمع الحركة بالقوة، لأنها، بتعبيره “تنتهك الأمن.” وفعلاً، استأسدت قوات الأمن عليهم، فأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين، واستخدمت الغاز المسيل للدموع لتفريقهم.

تمكّن الملالي، في تغاضٍ مخزٍ من عين العالم المتحرر، من قمع الحركة بوحشية، وأُسدل ستار الظلم على حيوية تلك الانتفاضة.

ومؤخرًا، وبعد الحرب الإسرائيلية المدمّرة لمقدّرات إيران العسكرية، جعلت إسرائيل من تتمّات هذه الحرب وسيلة لإحياء هذه الحركة ودعمها، أملاً بأن تكون حصان طروادة من الداخل، يطيح بحكم الملالي، ويساعد إسرائيل على تحقيق أهداف حربها القريبة والبعيدة.

لكن هذه السياسة لا تخلو من أضغاث الأحلام، لأنها تتغافل عن المعوقات الأخلاقية والاجتماعية لنشاطها، ولاسيما أن إسرائيل استثارتها علنًا في خضم الحرب، وهذه الاستثارة تُعدّ هدية مجانية للملالي لاتهام الحركة بالخيانة من جهة، ومن جهة أخرى زجّت بهذه الدعوة الحركة في صدام مباشر مع ثقافة اللطم الحسيني، التي يشكّل أفرادها أغلبية شباب إيران.

لقد عمد الملالي، بخبث سياسي ومكر ثقافي ديني، إلى تشكيل شبكات أخطبوطية تتغلغل في نسيج المجتمع. فهناك فئة أبناء شبكة الملالي الذين يشكّلون قادة الحسينيات والمساجد، وقد أخضع هؤلاء القسم الأغلب من أبنائهم لثقافة الحسينيات. إضافة إلى فئات الحرس الثوري، والباسيج، والعسكر، وموظفي الدولة في المراتب العليا والوسطى، جميع هذه الفئات زجّت بأبنائها في بوتقة ثقافة الحسينيات، ورسّخت في معتقداتهم دورهم المقدّس في حماية الثورة ورجالها، ومكّنت فيهم عداءً مطلقًا لكل من يناوئ حكم الملالي الذي يُنظر إليه بوصفه يتمتع بالإرادة الإلهية، ما يحرّم الخروج عليه.

لذلك، فإن المعوقات التي تصطدم بها حركة “زد” شديدة التعقيد والتركيب والعناد، ويحتاج تفكيك شبكة الصدّ الحسيني إلى سياسات متعددة البدائل والإستراتيجيات. فهي معركة كسر عقائد وإرادات، لا كسر اتجاهات اجتماعية أو سياسية، ولذلك لن تكون تلك المعركة قصيرة المدى.

9