أن تكون صحافيًا في عصر الذكاء الاصطناعي

الذكاء الاصطناعي ليس خصمًا بل ظلٌّ يرافق الصحافي يفتح له نوافذ أبعد، ويمنحه جناحين للحلم.
الجمعة 2025/10/03
الإنسان يمدّ يده إلى الآلة ليكتب معها فصلًا جديدًا

لم يعد السؤال اليوم: هل سيؤثر الذكاء الاصطناعي على الصحافة؟ بل أصبح: كيف يمكن للصحافي أن يظل صحافيًا في زمن تتغير فيه قواعد المهنة بسرعة غير مسبوقة؟ إن أردت الاستمرار على رأس عملك، عليك أن تستعد لأن تتبدل. ما كنت تفتخر به حتى هذه اللحظة بدأ يفقد قيمته تدريجيًا. لن تحتاج إلى سنوات أو حتى أشهر لتشعر بالزلزال تحت قدميك؛ بضعة أيام أو أسابيع تكفي لتدرك أن المشهد الإعلامي لم يعد كما كان.

أول ما ينبغي أن تتخلى عنه هو غرورك. الذاكرة التي كنت تتمتع بها، والتي كانت تسهل عليك مهمة استرجاع المعلومات، لم تعد ميزة. الذكاء الاصطناعي اليوم يستحضر ملايين الوثائق في ثوانٍ. اللغات التي كنت تتقنها، والتي منحتك تفوقًا في الترجمة أو الوصول إلى مصادر أجنبية، أصبحت متاحة لأي شخص عبر أدوات الترجمة الفورية. حتى قدرتك على الكتابة المسترسلة دون أخطاء لم تعد امتيازًا، فالخوارزميات تكتب نصوصًا متماسكة، بل وتعيد صياغتها بأساليب متعددة. أما التحليل الذي كنت تظن أنك بارع فيه، فقد جاء من يبزك فيه: أنظمة قادرة على ربط البيانات، استنتاج الأنماط، وتقديم خلاصات دقيقة في وقت قياسي.

فماذا تبقى لك إذن في عصر هيمن عليه الذكاء الاصطناعي؟ إن أردت البقاء على رأس عملك، عليك أن تواجه الإعصار. وإن ظننت أن الذكاء الاصطناعي سيسهل عليك المهمة، فأنت مخطئ. أنت تواجه اليوم منافسًا أشد من أي منافس واجهته خلال مسيرتك المهنية: إنه الذكاء الاصطناعي.

هل تنسحب وتبحث عن وظيفة أخرى؟ لا أنصحك بذلك. أي وظيفة تفكر بها ستجد أن الذكاء الاصطناعي سبقك إليها، أو هو في طريقه للهيمنة عليها. هذه ليست محاولة خبيثة لزرع اليأس في قلبك، بل توصيف واقعي لمشهد عالمي يتغير يوميا. ومع ذلك، لا يزال هناك مخرج يمكنك أن تنفذ من خلاله: أن تتعامل مع الذكاء الاصطناعي كشريك، لا كخصم أو منافس.

◄ قيمة الصحافي لا تُقاس بالمعلومة بل بوهج إنسانيته بجرأته على السؤال وبحسّه النقدي الذي لا يشيخ

لكن كيف يمكن للصحافي أن يجعل من الذكاء الاصطناعي شريكًا؟ هنا تبدأ رحلة إعادة تعريف المهنة. الصحافة لم تكن يومًا مجرد جمع معلومات أو صياغة نصوص، بل كانت دائمًا فنًا في اختيار الزاوية، وجرأة في طرح الأسئلة، وحسًا إنسانيًا في التقاط ما لا تلتقطه الآلة. الذكاء الاصطناعي قد يكتب لك تقريرًا عن أزمة اقتصادية، لكنه لن يلتقط دمعة مواطن فقد عمله، ولن يشعر بالارتباك في صوت مسؤول يحاول إخفاء الحقيقة. هذه المساحات الإنسانية هي التي تمنح الصحافة معناها، وهي التي لا يمكن للآلة أن تنتزعها.

الصحافي في عصر الذكاء الاصطناعي ليس مجرد للمعلومة، بل مفسر لها، يضعها في سياقها، ويكشف ما وراءها. الذكاء الاصطناعي يغرقك بالبيانات، والصحافي هو من يحدد أيها يستحق أن يصبح قصة، وأيها مجرد جعجعة. هنا تكمن القيمة المضافة: في القدرة على التمييز، وفي الحس النقدي والشجاعة على مواجهة السائد.

ثم هناك بعد آخر: الأخلاق. الذكاء الاصطناعي لا يعرف معنى المسؤولية الأخلاقية. قد يختلق معلومة، أو يخلط بين مصدرين، أو يعيد إنتاج تحيزات مضمرة في بياناته. الصحافي هو من يتحمل مسؤولية التحقق، ومن يضع المعايير، ومن يضمن أن ما يُنشر لا يضلل الجمهور. ومع تسارع انتشار الأخبار المزيفة، تصبح الصحافة القائمة على التحقق والشفافية أكثر أهمية من أي وقت مضى.

لكن هذا لا يعني أن الصحافي يجب أن يقف في موقع الدفاع. على العكس، عليه أن يتقن أدوات الذكاء الاصطناعي، وأن يوظفها لصالحه. يمكن للصحافي أن يستخدم الخوارزميات لاكتشاف الأنماط في البيانات، لرصد اتجاهات الرأي العام، أو حتى لتوليد مسودات أولية توفر له الوقت للتركيز على العمق والتحقيق. الذكاء الاصطناعي هنا يصبح أداة لتوسيع قدرات الصحافي، لا لإلغائه.

التاريخ يعلمنا أن كل ثورة تكنولوجية كانت تُستقبل بالخوف، لكنها كانت تفتح أيضًا آفاقًا جديدة. حين ظهر الراديو، قيل إن الصحافة المطبوعة انتهت. وحين ظهر التلفزيون، قيل إن الراديو انتهى. وحين ظهر الإنترنت، قيل إن الصحافة كلها انتهت. لكن ما حدث هو أن الصحافة تغيرت، أعادت تعريف نفسها، ووجدت لنفسها مكانًا جديدًا. الذكاء الاصطناعي ليس استثناءً. إنه زلزال، نعم، لكنه زلزال يفتح أيضًا آفاقا جديدة.

الصحافي الذي ينجو في هذا العصر هو من يدرك أن قيمته لا تكمن في حفظ المعلومات أو إعادة صياغتها، بل في إنسانيته، في حسه النقدي، في شجاعته على طرح الأسئلة التي لا تجرؤ الآلة على طرحها. هو من يستخدم الذكاء الاصطناعي ليعزز عمله، لا ليخاف منه. هو من يرى في الذكاء الاصطناعي شريكًا يوسع مداركه، لا خصمًا يهدد وجوده.

◄ في زمن الخوارزميات تبقى الصحافة وعدًا أبديًا: أن نبحث عن الحقيقة ونصونها من الضياع

أن تكون صحافيًا في عصر الذكاء الاصطناعي يعني أن تعيد اكتشاف جوهر مهنتك. أن تدرك أن الصحافة ليست مجرد مهنة، بل رسالة: البحث عن الحقيقة، الدفاع عن الشفافية، إعطاء صوت لمن لا صوت لهم. هذه الرسالة لا يمكن أن تؤديها آلة، مهما بلغت قدرتها على الحساب والمعالجة.

الذكاء الاصطناعي قد يكتب، قد يحلل، قد يلخص، لكنه لن يشك، لن يغضب، ولن يفرح. هذه المشاعر، وهذه القدرة على التقاط المعنى وسط الفوضى، هي ما يجعل الصحافي ضروريًا. وفي عالم تسيطر عليه المعلومات، يتحول الصحافي إلى بوصلة.

لا تنسحب، ولا تستسلم. استعد لأن تتغير. لكن لا تفقد جوهر ما يجعلك صحافيًا. الذكاء الاصطناعي قد يكون منافسًا، لكنه قد يكون أيضًا أعظم حليف لك. والقرار في النهاية بيدك: أن ترى فيه تهديدًا ينهي مسيرتك، أو فرصة تعيد بها تعريف نفسك، وتكتب فصلًا جديدًا في تاريخ الصحافة.

في النهاية، أعترف لكم: لم أكتب وحدي هذه السطور، بل شاركني فيها الذكاء الاصطناعي. لم يسبقني إليها، ولم يفرض نفسه عليّ، بل جاء حين دعوتُه، وأمسكت بيده كما يمسك الأب بابنه في أولى خطواته.

لم أعد أراه خصمًا يهددني، بل مرآة توسّع رؤيتي، وريشة تضيف لونًا جديدًا إلى لوحتي. لقد عقدت معه عهدًا لا ينكسر: أن أظل أنا القلب، وأن يكون هو الصدى؛ أن أظل أنا السؤال، وأن يكون هو الأداة؛ أن أظل أنا الإنسان، وأن يكون هو الامتداد.

إنني أرى في الذكاء الاصطناعي بابًا يفتح على فضاءات أرحب، ورحلة جديدة لا تُقصي الصحافي، بل تجعله أكثر قدرة على الحلم، أكثر جرأة على السؤال، وأكثر صدقًا في البحث عن الحقيقة.

10