وقد وضعت حرب غزة أوزارها.. ماذا عن فوائض إسرائيل
منذ قيامها، بنت إسرائيل سرديتها على معادلة قاسية: أن البقاء في الشرق الأوسط لا يُمنح، بل يُنتزع. هذه الفكرة لم تكن مجرد مبدأ أمني، بل أصبحت الأساس الفلسفي الذي قامت عليه الدولة العبرية. فالقوة، في العقل السياسي الإسرائيلي، ليست وسيلة لتحقيق السلام، بل شرط الوجود ذاته. ولعل بنيامين نتنياهو لخّص هذه الفلسفة في قوله الشهير: “في الشرق الأوسط، لا يُحترم الضعفاء، فقط الأقوياء يبقون”. لكن هذه العبارة، التي تبدو للوهلة الأولى واقعية ومتماسكة، تخفي وراءها مأزقاً وجودياً عميقاً. فحين تتحول القوة من وسيلة للحماية إلى هوية للوجود، تصبح الدولة أسيرة سيفها لا حارسة له، ويصبح الردع هدفاً في ذاته، لا وسيلة لسلام أو استقرار.
منذ عام 1948، لم تمرّ إسرائيل بفترة حرب طويلة كما حدث في العامين الأخيرين. حرب مفتوحة استنزفت قدراتها وطاقتها السياسية، وكشفت عن هشاشة في البنية العقلية لصناع القرار أكثر مما كشفت عن ضعف عسكري. فمنذ السابع من أكتوبر 2023، تمارس إسرائيل الردع كأنه فعل خلاص لاهوتي، وتقاتل كي تؤكد لنفسها أنها لا تزال قادرة على القتال، لا أكثر. لقد خرجت منتصرة عسكرياً في غزة ومن معركتها مع خصومها، لكنها لم تنتصر على الخوف الذي يسكنها منذ قيامها، الخوف الذي يُعيد إنتاج ذاته مهما تغيّرت الجبهات أو تبدّلت الأنظمة.
مهما فاز نتنياهو أو خسر، ومهما تبدلت الحكومات في تل أبيب، تبقى الحقيقة واحدة: إسرائيل لن تغادر هذه المنطقة. الجغرافيا ليست تفصيلاً يمكن إعادة رسمه، بل قدر سياسي لا مهرب منه
قال موشيه دايان في ذروة النشوة بعد حرب 1967: “نحن أمة تعيش على حدّ السيف، وكل يومٍ لا نحمل فيه السيف يعني أننا نسير نحو الزوال”. كانت تلك العبارة أكثر من تصريح عسكري، كانت تعبيراً عن وعي جماعي يرى في الخطر ضمانة للبقاء. ومنذ ذلك اليوم، لم تفارق إسرائيل سيفها، لكنها فقدت بوصلة إدراك ما وراءه. تحوّل السيف من وسيلة حماية إلى أسلوب حياة، ومن درع إلى جدار يفصلها عن محيطها، حتى باتت الحرب، بكل أشكالها، الحالة الطبيعية التي تشعر فيها بالاطمئنان.
الردع في مفهومه الإسرائيلي لم يعد مرتبطاً بميزان القوة، بل بحالة ذهنية قائمة على الخوف الدائم من الفناء. هذه هي المعضلة التي لم يتجاوزها العقل السياسي الإسرائيلي رغم تحوّله عبر العقود. فإسرائيل، يميناً أو يساراً، تتعامل مع نفسها كما لو كانت محاطة بالعدم. حتى حين تتفوق، تشعر بالتهديد، وحتى حين تردع، تشعر بأنها مهددة بالزوال.
وحين قالت غولدا مائير بعد حرب 1973: “يمكننا أن نغفر للعرب ما فعلوه بنا، لكننا لا نستطيع أن نغفر لهم لأنهم أجبرونا على قتل أبنائهم”، كانت تكشف، دون قصد، عمق التواء الأخلاق في الوعي الإسرائيلي. فالقتل في تلك الرؤية لم يعد خطيئة بل ضرورة مقدسة، والعنف ليس خياراً بل واجباً أخلاقياً لحماية “الذات المهددة”. وهكذا، تحوّل الدفاع إلى تبرير دائم، وتحولت القوة إلى قناع أخلاقي يُخفي مأزقاً داخلياً: دولة تحارب لتبرر وجودها، وتبرر وجودها لتستمر في الحرب.
هذا التحول في المعنى جعل الردع الإسرائيلي يبدو كآلة لا تتوقف. فكل نصر يخلق خوفاً جديداً من اليوم التالي، وكل هدنة تُفسَّر كضعف محتمل. وحتى عندما تسكت المدافع، يبقى الخوف مشتعلاً في الخطاب السياسي والإعلامي. إسرائيل لا تعرف كيف تعيش بلا تهديد، لأنها ببساطة لا تعرف نفسها إلا من خلاله.
اليسار واليمين في إسرائيل، رغم ما بينهما من صراعات انتخابية، يشتركان في الجوهر ذاته. اليمين يرى الردع غاية الوجود، واليسار يراه أداة تفاوض، لكن كليهما يتحرك داخل الفكرة نفسها: أن البقاء مرهون بالخوف، وأن الضعف خطيئة. وقد عبّر إسحاق رابين عن تلك الازدواجية الشهيرة في مفاوضات أوسلو حين قال: “نقاتل الإرهاب كأن لا مفاوضات، ونتفاوض كأن لا قتال”. عبارة بدت حينها حكمة سياسية متوازنة، لكنها مع مرور الزمن أصبحت شعاراً لأزمة عقلية مزمنة. إسرائيل تفاوض دون أن تؤمن بالسلام، وتحارب دون أن تؤمن بالنصر. فهي تعيش بين حرب لا تنتهي وسلام لا يبدأ.
خلال العامين الأخيرين، أثبتت إسرائيل قدرتها العسكرية الكاملة، سحقت حماس في غزة، وأضعفت حزب الله في لبنان، ووجهت ضربات قاسية إلى إيران وجماعة الحوثي في شمال اليمن. ومع ذلك، لم تخلق سلاماً ولا حتى استقراراً. فائض القوة الذي تمتلكه اليوم يشبه الماء المالح: كلما شربت منه زاد عطشها. فكل حرب ناجحة تُمهّد لحرب أخرى، وكل إنجاز عسكري يتحول إلى عبء سياسي وأخلاقي.
خلال العامين الأخيرين أثبتت إسرائيل قدرتها العسكرية الكاملة.. سحقت حماس في غزة وأضعفت حزب الله في لبنان ووجهت ضربات لإيران والحوثيين ومع ذلك لم تخلق سلاماً ولا استقراراً
إنها دولة قوية لكنها قلقة، قادرة لكنها غير مطمئنة. لم تعد حروبها تمنحها الأمان، بل تذكّرها بقلقها الوجودي. وفي كل مرة تظن أنها ردعت خصومها، تكتشف أنها لم تردع سوى ظلها. فالمشكلة ليست في القدرة على الانتصار، بل في عجزها عن التوقف عن الانتصار، لأن التوقف يُثير فيها فوبيا الخسارة.
الردع في أصله فعل عقل، لا فعل عضلة. لكنه في إسرائيل أصبح فعلاً عصبياً محكوماً بهاجس البقاء. حين تنظر المؤسسة العسكرية إلى غزة، تراها مختبراً لإثبات القدرة لا أرضاً لإنهاء الصراع. ولذلك تبقى محكومة بالانتصار، لكنها عاجزة عن الاكتمال. كل حرب ناجحة مقدمة لحرب أخرى، وكل ضربة جديدة محاولة لتعويض معنى ضائع. إنها ليست أزمة أمنية بل أزمة وعي سياسي. الدولة التي تفكر بحدّ السيف لا يمكنها أن ترى أبعد من ظله، والدولة التي تبني أمنها على الخوف من الآخر لا يمكنها أن تعيش سلاماً معه.
مهما فاز نتنياهو أو خسر، ومهما تبدلت الحكومات في تل أبيب، تبقى الحقيقة واحدة: إسرائيل لن تغادر هذه المنطقة. الجغرافيا ليست تفصيلاً يمكن إعادة رسمه، بل قدر سياسي لا مهرب منه. قال إيهود باراك ذات مرة: “إسرائيل في حيّ سيئ، لكنها لا تملك عنواناً آخر”. عبارة تختصر المأزق الوجودي للدولة العبرية. فالقوة تمنحها السيطرة، لكنها لا تمنحها الانتماء. إنها تملك القدرة على فرض الخوف، لكنها تفتقد القدرة على بناء الثقة.
لقد أصبحت المراجعة الداخلية في إسرائيل ضرورة لا ترفاً. فالدولة التي وصلت إلى ذروة قوتها العسكرية، تبدو في الوقت نفسه عند أدنى مستويات نضجها السياسي. الردع بلا مشروع سياسي يصبح هدنة مع الوهم، والقوة بلا وعي تتحول إلى ضعف مؤجل. وإذا لم تجرؤ إسرائيل على مراجعة بنيتها العقلية، من دايان إلى نتنياهو، فستظل تدور في حلقة الخوف ذاتها، مهما تغيرت ساحات الحرب.
لقد أثبتت حرب العامين أن إسرائيل تستطيع أن تربح كل المعارك، لكنها لا تستطيع أن تربح سلاماً واحداً. وأن فائض القوة لا يخلق استقراراً بل يضاعف الحاجة إليه. من دايان إلى مائير إلى رابين إلى نتنياهو، سارت إسرائيل في خط واحد: الخوف كعقيدة، والسيف كهويّة، والردع كبديل عن الفهم. الدولة التي تعيش على حدّ السيف، كما قال دايان، لا بد أن تنزف، حتى وإن ظلت واقفة.