نيودلهي تطلق أمطارًا اصطناعية لتخفيف التلوث الخانق

التلوث في نيودلهي ليس مجرد ظاهرة موسمية، بل نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الصناعية غير المستدامة، والتوسع العمراني غير المنضبط.
السبت 2025/10/25
حين يصبح الهواء خطرًا

نيودلهي ـ في خطوة غير مسبوقة، أطلقت السلطات الهندية يوم الخميس أمطارًا اصطناعية فوق العاصمة نيودلهي، عبر عملية تلقيح السحب باستخدام طائرة صغيرة، في محاولة لتبديد الضباب الدخاني السام الذي يلف المدينة منذ أيام. هذه التجربة، التي نُفذت بالتعاون مع المعهد الهندي للتكنولوجيا في كانبور، تمثل أول اختبار عملي لتقنية الاستمطار الصناعي في العاصمة، التي تُعد من أكثر مدن العالم تلوثًا.

وانطلقت التجربة من بلدة بوراري الواقعة شمال إقليم دلهي الاتحادي، حيث استخدمت طائرة سيسنا أحادية المحرك لتلقيح السحب. وأوضح وزير البيئة في نيودلهي، مانجيندر سينغ سيرسا، أن الرحلة التجريبية هدفت إلى اختبار جاهزية الطائرة والمعدات، وتقييم فعالية الصواريخ المستخدمة في التلقيح، إلى جانب تنسيق الجهود بين الجهات المعنية. وقال في بيانه: “أُجريت رحلة تجريبية لتلقيح السحب… أُطلقت خلالها صواريخ لتلقيح السحب”.

ورغم أن السلطات لم تكشف عن طبيعة المادة الكيميائية المستخدمة في هذه العملية، فإن رئيسة الوزراء ريكا غوبتا أشارت إلى أن أول هطول فعلي للأمطار الاصطناعية قد يحدث في 29 أكتوبر، إذا استمرت الظروف الجوية في التوافق مع متطلبات التلقيح.

وتواجه نيودلهي أزمة تلوث مزمنة تتفاقم كل عام مع دخول فصل الشتاء. إذ يؤدي الانقلاب الحراري إلى احتباس الهواء البارد تحت طبقة من الهواء الدافئ، ما يمنع تصاعد الملوثات إلى طبقات الجو العليا، ويحوّل المدينة إلى غرفة مغلقة مملوءة بالدخان والسموم. هذا “الغطاء الحراري” يساهم في تراكم الضباب الدخاني الناتج عن المصانع، حركة المرور الكثيفة، حرق المحاصيل الزراعية في الولايات المجاورة، والانبعاثات المنزلية.

الشتاء لا يُقاس بالبرودة بل بكثافة السموم في الهواء، حيث تُستدعى الطائرات لتُمطر أملاً فوق مدينة تختنق بالصمت

وتُظهر القياسات أن مستويات الجزيئات الدقيقة الملوثة المعروفة باسم PM2.5، وهي جسيمات يمكن أن تدخل مجرى الدم وتسبب أمراضًا تنفسية وقلبية، تصل في بعض الأيام إلى أكثر من 60 ضعف الحد الأقصى الذي توصي به منظمة الصحة العالمية. وقد سجلت شركة IQAir السويسرية مؤخرًا مؤشر جودة هواء بلغ 442، ما وضع نيودلهي في صدارة المدن الأكثر تلوثًا عالميًاالجزيرة نت.

وفي أكتوبر الجاري، ساهمت الاحتفالات بمهرجان الأضواء الهندوسي في تفاقم الوضع، حيث أُشعلت الألعاب النارية بكثافة رغم القيود المفروضة. ورغم أن المحكمة العليا سمحت باستخدام “المفرقعات الخضراء” لمدة محدودة، إلا أن الانبعاثات الناتجة عنها، والتي تقل بنسبة 30% إلى 50% عن الألعاب التقليدية، كانت كافية لدفع مستويات التلوث إلى درجات خطيرة.

وتعد تقنية تلقيح السحب واحدة من الحلول التي بدأت الهند في استكشافها لمواجهة التلوث، إلى جانب إجراءات أخرى مثل تقليل حركة السيارات، إغلاق المدارس، وتقييد الأنشطة الصناعية. وتقوم هذه التقنية على نشر مواد كيميائية مثل يوديد الفضة أو كلوريد الكالسيوم في السحب، لتحفيز تكوين قطرات المطر التي تساعد في غسل الهواء من الجزيئات العالقة.

ورغم أن هذه التقنية تُستخدم منذ عقود في دول مثل الصين والولايات المتحدة، إلا أن تطبيقها في نيودلهي يُعد خطوة جريئة، بالنظر إلى تعقيدات الطقس المحلي وكثافة التلوث. ويأمل المسؤولون أن تُسهم الأمطار الاصطناعية في تحسين جودة الهواء، ولو مؤقتًا، وتوفير متنفس لسكان المدينة الذين يتجاوز عددهم 30 مليون نسمة.

Thumbnail

وتُظهر الدراسات أن التلوث في نيودلهي لا يؤثر فقط على الجهاز التنفسي، بل يرتبط أيضًا بزيادة معدلات الإصابة بالسرطان، أمراض القلب، والاضطرابات العصبية. وقد أظهرت تقارير طبية أن الأطفال وكبار السن هم الأكثر عرضة للخطر، حيث يعانون من ضعف المناعة وصعوبة في التعامل مع الجزيئات الدقيقة.

وتُعد نيودلهي نموذجًا صارخًا للتحديات التي تواجه المدن الكبرى في العالم النامي، حيث يتقاطع النمو السكاني السريع مع ضعف البنية التحتية البيئية، وغياب سياسات صارمة للحد من الانبعاثات. ورغم الجهود الحكومية، فإن التلوث لا يزال يُشكّل أزمة مستمرة، تتطلب حلولًا مبتكرة وتعاونًا إقليميًا ودوليًا.

وتأمل السلطات الهندية أن تكون تجربة الأمطار الاصطناعية بداية لسلسلة من الإجراءات المستدامة، تشمل تحسين وسائل النقل العام، تعزيز الطاقة النظيفة، وتطوير أنظمة مراقبة جودة الهواء. كما يُتوقع أن تُجرى المزيد من التجارب لتلقيح السحب في مناطق أخرى من البلاد، في حال أثبتت التجربة الأولى فعاليتها.

وفي الوقت ذاته، يدعو خبراء البيئة إلى ضرورة معالجة جذور المشكلة، لا الاكتفاء بالحلول المؤقتة. فالتلوث في نيودلهي ليس مجرد ظاهرة موسمية، بل نتيجة تراكمات طويلة من السياسات الصناعية غير المستدامة، والتوسع العمراني غير المنضبط، وغياب الوعي البيئي لدى بعض الفئات.

Thumbnail
10