معبد هابو في الأقصر يستقبل الزوار بجدرانه الناطقة

المعبد ليس مجرد موقع أثري، بل هو بوابة إلى فهم فلسفة الفراعنة في الحياة والموت، وفي السلطة والعبادة.
الجمعة 2025/10/24
رحلة عبر الزمن

بواسطة مراكب تشق نهر النيل إلى الجانب الغربي من محافظة الأقصر جنوب مصر، أو عبر جسر حديث يعلو النهر، يمكن الوصول إلى أحد أعظم الشواهد المعمارية في التاريخ الفرعوني: معبد “هابو”. هناك، حيث يلتقي الزائرون بجدران شاهقة، وأعمدة ضخمة، وتماثيل صامتة تنطق بالحكمة، يقف المعبد شامخًا منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام، محتفظًا بألوانه ونقوشه، كأن الزمن مرّ عليه ليباركه لا ليبليه.

بمجرد أن تودّع النهر ونهاره الهادئ الخلّاب، تبدأ الرحلة القصيرة نحو المعبد، مرورًا بطريق تحفه آثار ومقابر فرعونية شهيرة، تبدو كأنها حرّاسٌ يرافقون الزائرين في صمت مهيب. وبينما تتقدّم الخطى، تتكشّف ملامح المعبد تدريجيًا، بجدرانه المهيبة التي ما زالت تحتفظ بتفاصيلها الدقيقة، رغم مرور آلاف السنين.

ويرى كبير الآثاريين المصريين، مجدي شاكر، أن اسم “هابو” يحمل دلالتين؛ الأولى تعني “المكان المحصّن”، والثانية تشير إلى “الاحتفال والطقوس الدينية”، وهو ما يتماشى مع وظيفة المعبد الجنائزية المرتبطة برحلة الخلود والعالم الآخر. ويضيف شاكر أن بعض الباحثين يرجحون أن الاسم يرتبط بأمنحتب بن حابو، وزير الفرعون أمنحتب الثالث، بينما يرى آخرون أن التسمية تعود إلى كاهن أو أب كان يقيم في هذه البقعة لاحقًا.

لكن ما يتفق عليه الجميع أن كل ما شُيّد في البر الغربي من مقابر ومعابد، ومنها “هابو”، يحمل طابعًا جنائزيًا ودينيًا، يعكس فلسفة الفراعنة في الحياة والموت، وفي الانتقال من العالم الأرضي إلى عالم الخلود.

في أحضان الأقصر، يقف معبد هابو شاهقًا، جدرانه تنبض بحكايا رمسيس الثالث، ألوانه الزاهية تتحدى الزمن، بوابة لعوالم الخلود والأسرار الفرعونية الساحرة

وفقًا لمعلومات وزارة السياحة والآثار المصرية، فإن الفرعون رمسيس الثالث، أحد أشهر ملوك الأسرة العشرين (حوالي 1184 – 1153 ق.م)، هو من أمر ببناء معبد هابو، ليكون مركزًا للطقوس الجنائزية وشعائر عبادة المعبود أمون. وقد اختار موقعًا استراتيجيًا في البر الغربي، حيث الشمس تغرب، وحيث تبدأ رحلة الروح إلى العالم الآخر وفق المعتقدات المصرية القديمة.

ويحيط بالمعبد سور ضخم، يتخلله حجرتان للحراسة، ويتوسطه بوابة عظيمة من الجهة الشرقية، تعلوها شرفات وبرجان. هذه البوابة تقود إلى الصرح الأول، ثم فناء واسع، يليه الصرح الثاني، ثم فناء آخر، قبل أن يدخل الزائر إلى ثلاث قاعات للأعمدة، ومجموعة من المقصورات، وصولًا إلى قدس الأقداس، الذي كان مخصصًا للعبادة، وخلفه مجموعة من الغرف التي كانت تُستخدم لأغراض متعددة.

ولا يقتصر المعبد على الوظيفة الدينية، بل كان أيضًا مركزًا إداريًا وملكيًا، حيث يضم بقايا القصر الملكي، ومخازن، ومباني لإدارة شؤون المعبد. الأعمدة التي تملأ القاعات تختلف في تصميمها؛ بعضها مستدير بتيجان نباتية، والبعض الآخر يحمل ملامح الفرعون رمسيس الثالث، في تجسيد رمزي لحضوره الدائم في المكان.

وتضم المنطقة المحيطة بالمعبد أيضًا معبدًا آخر أنشأته الملكة حتشبسوت والملك تحتمس الثالث، في موقع كان يحتضن معبدًا أقدم من الأسرة الثانية عشرة. كما تضم مقابر “الزوجات الإلهيات” للمعبود أمون رع، التي تعود للأسرتين الخامسة والعشرين والسادسة والعشرين، ما يجعل المكان مركزًا غنيًا بالتاريخ والرمزية.

وكانت في السابق قناة مائية تربط المعبد بنهر النيل، تسمح بالوصول إليه بالقوارب، في مشهد يُعيد إلى الأذهان طقوس العبور والانتقال بين العوالم. هذه القناة لم تكن مجرد وسيلة نقل، بل جزءًا من الطقس الجنائزي، حيث يُبحر الجثمان أو التمثال في رحلة رمزية نحو الخلود.

وكانت المنطقة المحيطة بالمعبد تُستخدم أيضًا لحماية السكان من الهجمات القادمة من الغرب، كما كانت تُحصّن المعبد نفسه في فترات الحروب، خاصة في عهد رمسيس الثالث، الذي واجه تحديات عسكرية عديدة، أبرزها غزوات شعوب البحر.

Thumbnail

زخارف المعبد تُظهر الفرعون رمسيس الثالث في مشاهد عسكرية، مثل الحملات والمعارك، إلى جانب مشاهد الصيد والرحلات الاستكشافية. كما تتضمن مناظر دينية تُظهر الملك في حالة تعبد، ومناظر احتفالية تعكس الطقوس والمناسبات المختلفة. هذه النقوش ليست مجرد زينة، بل سجلٌّ بصريٌّ لتاريخ سياسي وديني واجتماعي، نُقش على الحجر ليبقى.

ويصف مجدي شاكر المعبد بأنه “تحفة معمارية”، بسبب زخارفه ونقوشه المذهلة، ويؤكد أنه من أبرز المزارات السياحية في الأقصر، حيث يتوافد إليه الزوار من مختلف الجنسيات، وتبدو عليهم علامات الانبهار أمام هذا الصرح الذي يروي قصة حضارة لا تزال تنبض بالحياة.

الزائرون، سواء كانوا من محبي التاريخ أو من السياح العاديين، لا يملّون من التجوّل بين أروقة المعبد، والتقاط الصور أمام النقوش التي ما زالت تحتفظ بألوانها الزاهية. بعضهم يقرأ النقوش، والبعض الآخر يكتفي بالتأمل، لكن الجميع يشعرون بأنهم دخلوا إلى زمن آخر، حيث كانت الروح تُعبد، والملك يُقدّس، والحجر يُنطق.

معبد هابو ليس مجرد موقع أثري، بل هو بوابة إلى فهم فلسفة الفراعنة في الحياة والموت، وفي السلطة والعبادة. وهو جزء من شبكة معابد ومقابر في البر الغربي بالأقصر، الذي يضم أيضًا وادي الملوك، حيث توجد مقبرة الفرعون توت عنخ آمون، ومعبد حتشبسوت، ومعبد الرامسيوم، وغيرها من المواقع التي تجعل من الأقصر متحفًا مفتوحًا تحت السماء.

وفي زمن تتسارع فيه التكنولوجيا، وتُختصر فيه المعاني، يظل معبد هابو شاهدًا على قدرة الإنسان على تخليد فكره وفنه في الحجر. وبينما تُبنى ناطحات سحاب تنهار بعد عقود، يقف هذا المعبد منذ آلاف السنين، يروي قصة ملك، وشعب، ومعتقد، وحضارة.

إنه ليس مجرد أثر، بل درسٌ في التصميم، وفي الإيمان، وفي العلاقة بين الإنسان والكون. وربما لهذا السبب، حين يزور الناس معبد هابو، لا يخرجون منه كما دخلوا، بل يحملون معهم شيئًا من صمت الحجر، ومن حكمة النقوش، ومن دهشة الخلود.

Thumbnail