المغرب لا يسير بسرعتين
في منطقة تتسم بالاضطرابات السياسية والتقلبات الاقتصادية، يبرز المغرب كنموذج فريد في قدرته على تحويل التحديات إلى فرص، مستندًا إلى ثلاث ركائز متكاملة فيما بينها: الاستقرار السياسي، الإصلاحات الهيكلية، والرؤية الجيو-إستراتيجية المتوازنة.
الأحداث التي شهدتها البلاد خلال الأيام الماضية شكّلت اختبارًا حقيقيًا لقوة النظام المؤسساتي وقدرته على احتواء الأزمات دون المساس بالتماسك الوطني. تعاملت السلطات مع هذه التحركات بأسلوب استباقي، فرّقت فيه بين المطالب الاجتماعية المشروعة وبين محاولات التخريب والتأجيج. وقد أظهر المواطن المغربي وعيًا جماعيًا لافتًا، مدركًا أن الاستقرار ليس مجرد حالة أمنية، بل رأس مال استراتيجي يجب الحفاظ عليه.
هذا الوعي ليس وليد اللحظة، بل هو امتداد لعلاقة تاريخية بين الدولة والمجتمع، وقد تجلّى بوضوح في خطاب الملك محمد السادس بمناسبة عيد العرش في تموز/يوليو الماضي، حين أقر بوجود تحديات في قطاعي التعليم والصحة، خاصة في المناطق القروية، مؤكدًا أن “لا مكان اليوم ولا غدًا لمغرب يسير بسرعتين”. هذا الاعتراف الصريح يعكس نهجًا ملكيًا يقوم على الشفافية والتحسين المستمر، وهو ما ساهم في تهدئة الأوضاع وعودة الأمور إلى طبيعتها بسرعة، دون المساس بالوحدة الوطنية.
مؤخرًا، حصد المغرب إشارات قوية تؤكد ثقة المؤسسات المالية الدولية في مساره الإصلاحي. ففي 26 أيلول/سبتمبر الماضي، أعلنت وكالة ستاندرد آند بورز رفع التصنيف الائتماني السيادي للمغرب إلى BBB-/A-3، ما أعاد المملكة إلى فئة “درجة الاستثمار” التي فقدتها عام 2021. هذا القرار لم يكن تقنيًا فحسب، بل اعتُبر شهادة دولية على نجاح الإصلاحات الاقتصادية والمالية التي انتهجتها الحكومة المغربية.
وفي خطوة موازية، قرر البنك الدولي اختيار المغرب كمقر إقليمي لعملياته في شمال وغرب إفريقيا، وهو ما وصفه رئيس مجموعة البنك الدولي، أجاي بانغا، بأنه “اعتراف بمكانة المغرب كمركز اقتصادي مستقر وفاعل إقليمي موثوق”. هذا التحول من مستفيد إلى شريك استراتيجي يعكس تغيرًا نوعيًا في موقع المملكة على خارطة التنمية الدولية.
◄ الثقة الدولية لا تُشترى بل تُبنى عبر خيارات إستراتيجية مدروسة: خلاصة سياسية واقتصادية تعكس جوهر النموذج المغربي وتقدّمه كدرس عملي للدول النامية في بناء احترام خارجي من الداخل
الثقة الدولية لم تأتِ من فراغ، بل كانت ثمرة إصلاحات داخلية شاملة شملت المنظومة الضريبية، إطلاق السجل الاجتماعي الموحد، توسيع التغطية الصحية، إصلاح العدالة، مكافحة الفساد، وتحديث المؤسسات العمومية. وقد انعكست هذه السياسات على مؤشرات الاقتصاد الوطني: فقد بلغ نمو الناتج الداخلي الإجمالي 4.8 في المئة في الربع الأول من 2025، مقارنة بـ3 في المئة في نفس الفترة من 2024، وانخفض معدل البطالة إلى 12.8 في المئة في الربع الثاني، وهو أدنى مستوى منذ عامين.
أما قطاع السياحة، فقد سجل ارتفاعًا بنسبة 14 في المئة في الأشهر الثمانية الأولى من 2025، لتصل الإيرادات إلى 9.6 مليار دولار، وفقًا لبيانات وزارة السياحة. كما يُتوقع أن ينخفض العجز المالي إلى نحو 3 في المئة من الناتج الداخلي الإجمالي بحلول 2026، مدعومًا بزيادة الإيرادات الضريبية وترشيد الإنفاق العمومي.
تكمل هذه الإصلاحات رؤية جيو-إستراتيجية تستثمر موقع المغرب كجسر طبيعي بين إفريقيا وأوروبا. وقد نجحت الدبلوماسية الاقتصادية في تعزيز دور المملكة كمركز إقليمي مستقر، خاصة في ظل اضطرابات الجوار. استضافة اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مراكش عام 2023، واستعدادات تنظيم كأس إفريقيا للأمم 2025 وكأس العالم 2030، عززت من جاذبية المغرب كمنصة إقليمية للتجارة والاستثمار.
الرباط والدار البيضاء باتتا تُصنفان ضمن أبرز العواصم المالية في القارة، وهو ما تؤكده تقارير “أفريكا فاينانس” و”إيكونوميست إنتليجنس”، التي تشير إلى أن المغرب أصبح وجهة مفضلة للشركات متعددة الجنسيات الباحثة عن الاستقرار والولوج إلى الأسواق الإفريقية.
رفع التصنيف الائتماني يتيح للمغرب الوصول إلى التمويل الدولي بشروط أفضل، مما يخفض كلفة الدين ويوفر موارد إضافية للمشاريع التنموية. كما يجذب ذلك استثمارات أجنبية مباشرة، ويخلق فرص عمل جديدة، خاصة في قطاعات التكنولوجيا والطاقة والسياحة. وتشير توقعات وزارة الاقتصاد والمالية إلى ارتفاع نصيب الفرد من الناتج الداخلي من 4700 دولار في 2025 إلى أكثر من 5700 دولار بحلول 2028، ما يعكس تحسنًا في مستوى المعيشة.
رغم ذلك، الطريق ليس مفروشًا بالورود، فهناك بعض الأشواك. لا تزال هناك تحديات هيكلية تتطلب معالجة مستدامة، أبرزها البطالة بين الشباب، التفاوتات الجهوية، وتأثيرات التغير المناخي على القطاع الفلاحي. نجاح النموذج المغربي يعتمد على تعزيز العدالة الاجتماعية، وتوسيع المشاركة المجتمعية في صياغة السياسات، ومواصلة الإصلاحات لمواجهة التقلبات العالمية.
في المحصلة، يقدم المغرب درسًا عمليًا للدول النامية فحواه: الثقة الدولية لا تُشترى، بل تُبنى عبر خيارات إستراتيجية مدروسة، واستقرار سياسي، وإصلاح اقتصادي متواصل. النموذج المغربي يثبت أن التنمية المستدامة تبدأ من الداخل، وتُترجم إلى احترام خارجي لا يُمنح إلا لمن يستحقه.