"أغالب مجرى النهر".. دراما روائية تعيد تأمل الهامشي من تاريخ الجزائر

سعيد خطيبي يبني من خلال الخيال رواية مضادة للرواية الرسمية.
الأحد 2025/07/13
ما يتجاوز الشخصيات الظاهرة (لوحة للفنان مصطفى بوطاجين)

غالبا ما يتجاهل التاريخ الذي ترويه المصادر الرسمية الكثير من التفاصيل ويهمشها، خاصة ما يتعلق بوطأة الأحداث وتأثيرها على الأفراد، والتحولات الفردية التي تتراكم من ذات إلى أخرى لتصبح في النهاية جماعية. هذه التفاصيل تحتاج إلى الخيال الروائي لفهمها وخاصة للإحساس بها، وهو ما ينجح فيه الروائي الجزائري سعيد خطيبي في روايته التي تسائل التاريخ بطريقة غير مباشرة.

بيئة الهامش سند للأعمال الروائية وتستمد منها الثيمات التي تقوم عليها بنيتها الدرامية. ومن المعلوم أنّ هذه الحاضنة تفور بالحراك الذي يعبّر عن الحياة بتناقضاتها المركبة وأبعادها المتعددة. لذا فمن الطبيعي أنّ يتخذ النص الروائي من هذا الواقع المتشابك مسرحا أثيرا لاشتقاق مواضيعه وصياغة آلياته السردية.

يجوس الكاتب الجزائري سعيد خطيبي في روايته الصادرة حديثا “أغالب مجرى النهر” داخل منطقة يؤدي خطها البياني إلى الجريمة والعربدة والعار السياسي، والأمكنة التي تتحرك فيها الشخصيات الروائية توافق المزاج الغالب على السرد وتشحن الحدث بالزخم إذ يؤطر السجن والمشرحة والعيادة إضافة إلى بيت الهوى المجال الذي تنمو فيه الحبكات والعقد. إذ تتقاطع مصائر الشخصيات وتتضافر خيوط الأحداث ضمن أشواط سردية متتابعة.

دوائر سردية

لا يقيد صاحب “نهاية الصحراء” نبرة روايته بحدث وحيد بل هناك تنويع في تشكيلة الوقائع سواء ما يكون خارج زمن السرد أو ما ينشأ تبعا لتوالي الوحدات السردية.

يترشح من الرمية الأولى ما يوحي بأنّ سعيد خطيبي يريد خلط الأوراق بشأن مقتل شخصية يبدو بأنّ دائرة الاتهام على خلفية الحدث تتسع لعدد من الأشخاص، بدءا من عقيلة، وهي زوجة القتيل، مرورا بعزوز خالدي وابنه ميلود وصولا إلى ثامر وريمة.

f

على حاشية هذه الحبكة البوليسية المكوّنة من العثور على جثة الطبيب الشرعي مخلوف تومي تنتظم سلسلة من المواد القصصية في متن الرواية. إذ يكون لكل شخصية صندوقها الأسود يضم أضابير حياتها. والأهم في المنحى البنائي في التشكيلة السردية الترابط بين المفاصل التي يقوم عليها الخطاب الروائي بمستوياته المختلفة. وذلك يلاحظ أكثر في الالتماعات التي تعيد بناء المشاهد في ذهن المتلقي.

يستمد النص الروائي الطاقة الإقناعية من البرنامج الذي تنتظم عليه المادة المسرودة، الأمر الذي يجنب تشكيلة العمل من التعثر والتشظي الفني. يرتب سعيد خطيبي أوراق روايته ضمن دوائر يتفاوت فيها مستوى فاعلية الأصوات ومشاركتها. هذا ما يوحي به منطق الأحداث للوهلة الأولى، إذ يخترق طيف عقيلة المجال السردي وما يترامي إلى السمع في مفتتح الرواية، ليس سوى صوت المرأة الموقوفة على خلفية مقتل زوجها.

ما يذكر على لسان الدكتورة عقيلة بأسلوب يضاهي تقنية تيار الوعي يأخذ بالمتلقي نحو دوامة من الفرضيات. لأنّ عقيلة تسترجع في زنزانتها السيناريو الذي قد راودها لقتل مخلوف تومي، إلى هنا ينفرد صوت عقيلة بالقص ملقيا الضوء على ما يعتمل في دخيلتها من الهواجس الكابوسية. يؤرقها مصير الابنة وما يلاحق الأخيرة من السخرية عندما يعرف أصدقاؤها في المستقبل بأنّ الأم كانت في الحبس. هكذا يبدأ العد التنازلي لكشف ملف شخصية الطبيبة وتكوينها الأسري والبيئة التي نشأت فيها إضافة إلى تجربتها العاطفية مع تامر الذي تعرفت عليه عندما كانت طالبة في كلية الطب بالعاصمة.

قبل أن يصل شريط الرواية إلى هذه الحلقات يبدل خطيبي صيغة السرد بتقنية التحقيق البوليسي إذ يفتح المحقق جمال درقين المحضر وتتوالى المعلومات عن حياة عقيلة وعمرها وموقع العمل وبداية معرفتها بمخلوف تومي إلى أن وافق يوم خطوبتها له يوم انتخاب الشاذلي بن جديد للمرة الثانية رئيسا للجزائر. هذا ليس كل ما يذكر في هذا المفصل بل تمرّر شذرات من طفولتها والحياة المراهقة بين تضاعيف النص.

كما أنّ الإشارة إلى اختفاء المروحة في عيادتها وإيداعها الشكوى ضد الجيران من الأحداث التي تطفو إلى سطح الذاكرة ويكون لهذا الموضوع تفصيل لا يرفع عنه النقاب إلا لاحقا، كذلك فإنّ الأسماء التي يملؤها نطاق السرد “سلوى، بودو، ثامر” ليست مجرد كيانات لفظية مكملة للأدوار المنوطة بشخصيات أخرى، بل ينجلي من خلالها الغموض عن الحدث أو تبعد شبح التراخي عن السرد.

النبرة الدرامية

سعيد خطيبي لا يحاكم في روايته الثورة بقدر ما يحاول لفت النظر إلى التأمل في السرديات الرسمية المنقوصة
سعيد خطيبي لا يحاكم في روايته الثورة بقدر ما يحاول لفت النظر إلى التأمل في السرديات الرسمية المنقوصة

ومن الملاحظ أنّ ما يقع خارج الهموم الشخصية يشحب لونه في المادة المروية. وهذا ما تستشفه في الكلام عن تدشين حملة للوقاية من عدوى السيدا التي يزعم البعض بأنها لا تصيب المسلمين. والأمر لا يختلف كثيرا بالنسبة إلى المشروع الذي يشغل ذهن عقيلة عن افتتاح كلية الطب في بوسعادة وما يعنيه ذلك لمدن الجنوب من أهمية، غير أنّ من تعقد عليه الراوية الرهان لتحقيق هذه الخطوة يخطفه الموت، وبذلك ينتهي مخطط هذا الملف.

ما تبوح به عقيلة عن الفكرة التي راودتها لقتل مخلوف ومعاودة السيناريو الإجرامي إلى رأسها عندما تلمّستْ سكاكين وسواطير تصلح لتقطيع أحشاء الزوج معطيات تغلف مقتل مخلوف تومي بالضبابية. وما يرجح فرضية تورط عقيلة في قتل مخلوف أنّ الأخير كان يسرف في سلوكياته المهينة إلى أن زاد الشرخ بين الاثنين.

وبالطبع لاشيء يصعد من النبرة الدرامية في الرواية أكثر من شخصية مخلوف الذي أقنع زوجته باستئصال قرنيتي الموتى في المشرحة التي كان بمثابة ورشة أعماله المشبوهة. يدون اسم الجثة التي ينتزع منها قرنيتي العين. فكان سمير قليش الذي مات بعدما هوى من طابق خامس مع أن جمجمته قد تهشمت لكن لم تفقد قرنيتا عينيه الصلاحية، وذهبتا إلى فوزية الخياطة، وشهلة الدراق، یشار إلى أنّ الأولى ليست أكثر من شخصية فنية أما الثانية تعد مجالا للتنافذ بين عصرين.

على الرغم من متابعة مخلوف للعملية التي كانت تتكرر أمامه غير أنّه لم يتمكن من القيام بإجرائها مخفيا فزعه بالتقوى، ويبرر من جانب آخر ما تنهمك عليه عقيلة من نقل قرنيتي العين من جثة إلى مراجعيها في العيادة بأنّه يضاهي إحياء نفس ومن أحياها كمن أحيا الناس جميعا.

يهم المؤلف زيادة الطابع الحيوي للنص وذلك ما يحققه التنوع في الصياغة وتضمين النص بكل ما يزيده ارتباطا بالزمن الذي يتناوله، الأمر الذي نجح فيه صاحب “حطب سراييفو” وهو يغطي المظاهر التي زحفت إلى تفاصيل الحياة في مدينة بوسعادة على المستوى المعماري والاجتماعي. فالأراضي التي توقعت عقيلة بأنها ستكون حديقة ومدينة للألعاب قد غزاها الجشع العقاري. كما أنها لم تعد حرة في ملبسها ومشيتها لأنّ نظرات المارة تنهال عليها بشراسة ونهم. ولا تفوته الإشارة إلى تضييق حرية الصحافة وتصاعد النغمة التعبوية تحت غطاء وجود التآمر الخارجي.

المنعطف الكبير

الرواية تنوع في تشكيلة الوقائع سواء ما يكون خارج زمن السرد أو ما ينشأ تبعا لتوالي الوحدات السردية

حياة الأمم والشعوب لا تخلو من الأحداث المفصلية التي سيكون لها امتداد في مسيرتها المستقبلية وتمثلات في صيرورتها الثقافية. ومن المعلوم أنّ الرواية أكثر من أيّ جنس أدبي آخر تتفاعل مع حيثيات تلك اللحظات الفاصلة وتطوع أبعادها الدرامية والإشكالية في السبيكة السردية.

وتمكن الإشارة في هذا الصدد إلى روايات الكاتب التشيلي أنطونيو سكارميتا وانهمامه بما تهاوى إليه بلده من العسكرتارية بعد انقلاب على سيلفادور إليندي هذا الحدث أصبح لازمة لأعماله الإبداعية كذلك بالنسبة إلى مواطنته إيزابيل الليندي تدير صاحبة “نساء روحي” عدستها في رواية “سفينة نيرودا” نحو أفول التجربة الاشتراكية في أرض الزلازل.

كما تحول غزو النازية الألمانية لباريس إلى ثيمة في روايات باتريك موديانو، هذا المنحى تجده في الروايات الجزائرية إذ الثورة هي الثيمة الجدلية التي يعود إليها الروائيون بغض النظر عن الاختلاف الجيلي والخلفية العقائدية.

يتكئ سعيد خطيبي على شخصية عزوز خالدي الذي كان يكنى بـ”كردادة” في زمن حرب التحرير. يسرد عزوز بالضمير الأول ذكرياته في القرية حيث تعلم هناك الكثير وتوقع بأنّه يمضي العمر في سقي الأشجار وتلقيح النخيل قبل أن تهجر أسرته إلى بوسعادة تاركة الأراضي لرحمة الجفاف والحر.

الطابع الحيوي للنص يتحقق من خلال التنوع في الصياغة وتضمينه بكل ما يزيده ارتباطا بالزمن الذي يتناوله

ولا تنتظر أفراد الأسرة في المدينة سوى حياة الهامش. وكان مكان الإقامة مرآبا رطبا تعشش فيه الحشرات. توقفت الحياة الدراسية لعزوز في الصف الخامس الابتدائي وما يكون له دور في مصيره هو معرفته بودو. يشارك الاثنان في جيش الحلفاء ضد المحور في إيطاليا ومن ثمّ يفتح بودو طريقا لصديقه للانضمام لجنة الثورة، مؤكدا بأنّ هزيمة الفرنسيين وتكرار ملحمة ديان بيان الفيتنامية في الجزائر ليس مستحيلا.

لكن ما يصعّب موقف عزوز هو تكليفه بتفجير مقهى شقيقه ورفضه لهذه المهمة يثير الشكوك حوله، تلاحقه تهمة الوشاية والكشف عن هوية شهلا البرق، ويسجن على إثر ذلك ويعذبه رفاق الدرب بعد الانتصار. والأسوأ من ذلك هو وصمة الحركي التي تقيده في حظيرة المنبوذين.

لا تنقطع الشخصيات التي تدخل إلى مسرح الرواية عن تلك المرحلة التاريخية. كان التعارف بين ياقوت وعزوز في مقهى “روز” متزامنا مع اشتعال معركة الجزائر. كما أنّ محجوب الأعور والد مخلوف تومي طالته التهمة بالتعاون مع الفرنسيين وقضى أياما مريرة في السجن، والمشترك بين هذه الشخصيات أنها تنتمي إلى قاع المجتمع بمن فيهم المحقق إدريس بادة الذي كانت أمه صديقة لياقوت.

لا يحاكم سعيد خطيبي في روايته الثورة بقدر ما يحاول لفت النظر إلى التأمل في السرديات الرسمية التي تغض الطرف عن تفاصيل كاشفة لخيبات ترافق جميع الثورات لكن يمكن تدارك آثارها الثقيلة حين يكون النقاش قائما عن المناطق المظلمة قبل أن تكون مفرخا للمزيد من الأخطاء والخيبات. أراد خطيبي من خلال ما قدمه الإبانة عن إمكانية وجود رواية مضادة إلى جانب روايات سائدة الأمر الذي ترمز إليه شخصية تومي مخلود وميلود.

10