موظف القطار وشرف علي بابا

عندما يضعف القانون أو يغيب، يحل منطق القوة محل العدالة، وتفقد المجتمعات البشرية قدرتها على البقاء.
الخميس 2025/08/21
حرب الجميع ضد الجميع

واقعة تكريم موظف القطار بمصر، المنتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لقيامه بمنع راكب يرتدي سروالا قصيرا “شورت” بحجة أنه يخالف قناعات الموظف عن القيم المجتمعية، تبدو شبيهة بقصة كتبها الكاتب المصري الساخر أحمد رجب ونشرها في سبعينات القرن الماضي وكان عنوانها “محاكمة علي بابا”.

القصة تحولت لاحقا إلى فيلم تلفزيوني بنفس الاسم، وتحكي عن مدرسة في حضانة للأطفال تقص عليهم قصة علي بابا الشهيرة، الذي عثر بالصدفة على مخبأ للصوص يخفون فيه مسروقاتهم، ثم غافل اللصوص وحصل على الكنوز المسروقة لنفسه.

وبينما المدرسة منهمكة في ذكر فضائل علي بابا، باغتها أحد الأطفال النبهاء بملاحظة وجيهة، مفادها أن علي بابا لا يختلف عن اللصوص بما أنه سمح لنفسه بالحصول على الكنوز المسروقة ولم يحاول تسليمها إلى الشرطة أو إعادتها إلى أصحابها.

وبدلا من أن تنتبه المدرسة إلى المفارقة وتحيي الطفل على فطنته، تمادت في عنادها وإصرارها، وطلبت من بقية الأطفال أن يرددوا وراءها عدة مرات عبارة “علي بابا رجل شريف”، لإغاظة الطفل وخلخلة مفهومه السليم لقيمة الشرف.

في واقعة موظف القطار بمصر، ورغم نفي هيئة السكك الحديدية أن منع الراكب جاء بسبب ارتدائه سروالا قصيرا، إلا أن مسارعة نقابة العاملين بالسكك الحديدية إلى تكريم الموظف، كان تصرفا يعكس حالة من العناد مع المجتمع الذي انقسم بين مؤيد ومعارض لتصرف الموظف.

ومع التقدير لرغبة مسؤولي النقابة في التضامن مع زميلهم بعد انتشار الواقعة بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، إلا أن هذا التضامن، والحرص على الإعلان عنه، لا يختلف كثيرا في جوهره عما فعلته مدرسة الحضانة في قصة علي بابا.

وفضلا عن اعتباره محاولة لتحدي أو مضايقة من حذروا من تأثير التصرف على فكرة الحرية الشخصية المحترمة من القانون، فإنه في معناه العميق يمنح الأفراد حق الخروج على القانون، ليس فقط دون خوف من العواقب، وإنما باقتناع أنه قد يقابل بالتكريم.

هذا السلوك، غالبا ما يكون له تأثير مدمر على المجتمعات الإنسانية، كونه يعزز فكرة العشيرة (أو الفئة في حالة الموظفين) على حساب الدولة، وهو تأثير حذر منه الفيلسوف الإنجليزي القديم توماس هوبز في كتابه “ليفياثان”، معتبرا أن غياب سلطة القانون يحول الحياة إلى “حرب الجميع ضد الجميع”.

كما أن تغييب القانون الذي يراه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم نظاما أخلاقيا حاكما يربط الأفراد بالمجتمع لا يترتب عليه فقط حدوث فوضى لحظية، إنما غالبا ما يؤدي إلى انهيار طويل الأمد للبنية الاجتماعية والأخلاقية والسياسية، ومن ثم انتشار الجريمة وتفكك الروابط الاجتماعية.

في روايته الشهيرة “الإخوة كرامازوف” أورد الأديب الروسي فيودور دوستويفسكي مقولته الفلسفية الجدلية والعميقة “إذا كان الله غير موجود فكل شيء مباح”، التي تعني ضمن ما تعنيه أنه في غياب سلطة أخلاقية حاكمة، وعندما يضعف القانون أو يغيب، يحل منطق القوة محل العدالة، وتفقد المجتمعات البشرية قدرتها على البقاء. من هنا يمكن فهم دواعي الربط بين موقف موظف القطار مع صاحب السروال القصير، وبين حرص المدرسة على الدفاع عن شرف علي بابا.

18