"لا" الساحرة

"لا" ليست مجرد كلمة وإنما يمكن اعتبارها فعلا إنسانيا تحريضيا، ارتقى بها إلى درجة كونها أكثر الكلمات إيجابية في التاريخ.
الخميس 2025/07/24
أصحاب "لا" هم غالبا من يعيدون تشكيل العالم

في مراحل دراسية مبكرة تعلمنا أن هناك تصنيفين لكلمة "لا". الأول هو "لا" النافية التي تنفي حدوث الفعل أو وجود الشيء، والثاني "لا" الناهية التي تنهى عن القيام بفعل معين قبل أن يقع وبالتالي هي تختص بالمستقبل.

لكنّ أحدا من مدرسينا في الصغر لم ينبهنا، وربما لم ينتبهوا هم أنفسهم، إلى وجود تصنيف ثالث للكلمة أكثر تأثيرا في حياة الناس، هو "لا" الساحرة التي تملك وقعا خاصا، في نفوس من يقولونها أو من يسمعونها.

"لا" ليست مجرد كلمة وإنما يمكن اعتبارها فعلا إنسانيا تحريضيا، ارتقى بها إلى درجة كونها أكثر الكلمات إيجابية في التاريخ، لأن كل تقدم في الحضارة البشرية بدأ بشخص قال "لا" لما هو كائن، وأن أصحاب "لا" هم غالبا من يعيدون تشكيل العالم.

لك أن تتخيل مثلا، لو لم يقل مارتن لوثر القس الإصلاحي "لا" لفساد الكنيسة الكاثوليكية، لما انطلقت حركة الإصلاح الديني التي مهدت لنهاية عصور أوروبا المظلمة، وماذا كان مصير حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة لو لم تقل روزا باركس "لا" عندما طلب منها التخلي عن مقعدها في حافلة بيضاء اللون.

المثير أن سحر كلمة "لا" له أصول علمية، حيث أرجعه علم النفس إلى أنها ترتبط داخليا بفكرة التحكم والاستقلال الذاتي، كما أظهرت دراسة أجراها د. روي بوميستر أن رفض الآخرين أو مقاومة الإغراءات يشعران الإنسان بسلطة داخلية.

كما كشفت عملية للتصوير الدماغي أن سماع كلمة "لا" ينشط المناطق المرتبطة بالخطر والانتباه، ما يجعلها ذات وقع فسيولوجي خاص، فضلا عن أنها تثير الاستجابة الفورية أكثر من "نعم"، لأن الدماغ مستعد بيولوجيًا لرصد الرفض والرفض المضاد.

الواقع أنه منذ زمن بعيد تجاوزت كلمة "لا" حدود السياسة وتعقيداتها، لتصبح تعبيرا أصيلا عن الكرامة الإنسانية، وهو ما عبّر عنه الفيلسوف الألماني نيتشه حين قال في كتابه "هكذا تكلم زرادشت" إن الحرية هي أن نملك الشجاعة لنقول لا.

في محيطنا العربي يبرز الاحتفاء بالكلمة بشكل ملفت، حيث جعلها الكاتب والصحافي المصري الراحل مصطفى أمين عنوانا لروايته "لا" التي نشرها في أواخر السبعينات من القرن الماضي، بعد خروجه من السجن، وتعكس تجربته المريرة مع القمع، لكنها تجاوزت السيرة الذاتية لتصبح صرخة أدبية في وجه الظلم والتواطؤ المجتمعي.

أما أبرز من قالوا "لا" في الأدب فهو الشاعر المصري الراحل أمل دنقل، وقصائده الشهيرة التي حفلت بتلك الكلمة وكانت من أسباب رواجها وخلودها بفضل سحر كلمة "لا" وقدرته على توظيفها، ليست فقط كأداة لغوية وإنما كرابط شعري سياسي وفكري وجودي، وتكررت في قصائده كتعبير عن رفض أخلاقي، وشهادة على الحرية.

من منا لا يتذكر قصيدة أمل دنقل "لا تصالح" التي كانت أبلغ وأشهر موقف شعبي مصري ضد الرئيس الراحل أنور السادات لعقد أول مفاوضات من أجل السلام مع إسرائيل في منتصف السبعينات، وصولا إلى عبارة "المجد للشيطان معبود الرياح.. من قال 'لا' في وجه من قالوا نعم" في قصيدته "كلمات سبارتكوس الأخيرة".

18