35 عاما على رحيل باني نهضة دبي
بحلول السابع من أكتوبر الجاري، يكون قد مر 35 عامًا على رحيل مؤسس نهضة دبي وشريك الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان في بناء اتحاد دولة الإمارات العربية المتحدة، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم. يشير تاريخ الرجل إلى ذلك الذكاء الفطري الذي طالما ميزه، وإلى ذلك الإصرار على تحدي الظروف الصعبة والقفز فوق الحواجز والمعوقات، في اتجاه التأكيد على أن الإرادة الصلبة هي التي تقهر المستحيل، وأن الرؤية الثاقبة هي التي تحقق المنجز الحضاري العظيم.
كان متواضعًا، بسيطًا، هادئًا، من الصعب أن يغضب، عنيدًا في التمسك بمواقفه، صاحب فراسة في فهم البشر، منفتحًا على الآخرين، يستمع بانتباه ويتحدث بمقدار. كان سابقًا لعصره، مستشرفًا للمستقبل، يقرأ كتاب الأيام بتحليله العميق للأحداث. كان براغماتيًا في مواقفه وقراراته، لكن عاطفته لم تفقد في يوم من الأيام حرارتها تجاه أسرته: الوالد الوقور الزاهد الشيخ سعيد، الوالدة الحكيمة “أم دبي” الشيخة حصة بنت المر الفلاسي، الزوجة “أم الشيوخ” الشيخة لطيفة بنت حمدان آل نهيان، شقيقة الروح وشريكة الحياة والحلم والمشروع، التي كان رحيلها في العام 1983 انقلابًا مأساويًا في حياته، والأبناء الذين تربوا على عبقرية سيرته وثراء مسيرته. وأقربهم إلى خصوصيات شخصيته وأكثرهم التزامًا بفكره ورؤيته وتجربته هو الشيخ محمد، الذي تحدث عن والده في تقديمه كتاب “مشاهد من فكر وحياة الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم” لمؤلفه المستشار إبراهيم بوملحة: “من يعرف الشيخ راشد بن سعيد يدرك حقيقة هذا الرجل الذي أتحدث عنه، ولربما يقصر الحديث عن استجلاء ميزاته وسجاياه، ليس لكونه والدي فقط، ولكن لذات هذه الشخصية النادرة، ولمدى ما حققه في حياته، وما قام به في مجتمعه من أعمال كبيرة في ظل ظروف صعبة، ربما لا تمكن صاحبها من تحقيق رؤاه وطموحاته”.
وأشار إلى أن: “الشيخ راشد، رغم ظروف عصره التي مر بها، بخاصة في بدايات شبابه، وما أوجدته تلك الظروف من أزمات اقتصادية بالغة السوء ضربت أوصال المجتمع حتى اضطرت الحكومة إلى أن تصرف للناس موادهم الغذائية وأقمشة ملابسهم بموجب بطاقات… استطاع بفكره وبعد نظره وصبره وحكمته، وجده واجتهاده، وملامسته مشاعر الناس وأحاسيسهم واحتياجاتهم وتفاعله مع آلامهم، تحقيق بعض ما خفف من غلواء هذه الأزمات في مجتمع دبي والمنطقة عامة”.
الشيخ راشد كان ابن بيئته قارئًا جيدًا للصحراء مستشرفًا للمستقبل متوثبًا بروح الفارس البدوي مستخلصًا من الطبيعة دروسًا لفهم توازنات الحكم وصراعات النفوذ والعلاقة بين الحاكم والمحكوم
أعتقد أن الشعب العربي من المحيط إلى الخليج يحتاج إلى قراءة سيرة ومسيرة الشيخ راشد، والتعمق في تفاصيلها، والنهل من فيض كرم التجربة التي عاشها وقاد من خلالها مشروع نهضة دبي، المدينة القاطرة التي جرّت من ورائها تجارب عواصم ومدن أخرى في المنطقة والعالم، وشكّلت نموذجًا غير مسبوق في تحويل الأحلام إلى حقائق، وأكدت أن العرب ليسوا أقلّ من غيرهم من حيث الإنجاز والإعجاز ونيل الامتياز.
يقول الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: “راشد بن سعيد معلمي الأول… كان فارع الطول، ترتسم التجاعيد على ملامحه لكثرة التبسم، أما الخطوط المحيطة بعينيه، فأضفت هيبة وجدية على وجهه. كان صوته هادئًا ودافئًا وقريبًا من النفس، وعلى الرغم من ذلك، كان الصمت يخيم على الجميع عندما يبدأ الكلام”.
ويضيف: “من اللحظات الأولى التي لا أنساها معه، عندما كان يردفني معه على خيله، كنت في الثالثة من عمري تقريبًا، في جولاته الصباحية. أبي والخيل ودبي، هي ذكرياتي الأولى عن طفولتي… أبي والخيل ودبي، هي ذاكرتي التي ستبقى معي حتى النهاية. الخيل تجمع العزة والأنفة والرقة والقوة في نفس الوقت، وكذلك أبي، وكذلك دبي. أرسلني للمدرسة لتعلم القراءة والكتابة واللغة والعلوم، وأخذني معه في مجالسه وجولاته ورحلاته، لأتعلم الحياة”.
ويتابع الشيخ محمد: «ما بين الرابعة والثامنة من عمري، علمني أبي الكثير عن الصحراء، وكيف يمكن أن تعيش حياة كاملة فيها، رغم ما يظهر عليها من قسوة المظهر، وقلة الموارد، واتساع قد يخيف الكثير من الناس. ما بين الرابعة والثامنة من عمري، علمني والدي كيفية تعقب الأثر، أو قراءة الرمال كما لو أنك تتصفح كتابًا. كان يريني آثار الإبل، ويقول: كل بدوي يمكنه تمييز إبله من آثار أقدامها، ولو كان عددها بالمئات!”
كان الشيخ راشد ابن بيئته، متجاوبًا مع أسرار الطبيعة، قارئًا جيدًا للصحراء، متوثبًا بروح الفارس البدوي الذي يتخذ من تداول الفصول ومدارات النجوم وحركة الريح ومزاج الموج والصراع من أجل البقاء في البحر والغاب والصحراء، دروسًا لفهم توازنات الحكم والسلطة وصراعات النفوذ والعلاقة بين الحاكم والمحكوم. ويؤكد الشيخ محمد: «عرفني عندما كنت صغيرًا على آثار الغزلان والحبارى وطيور الكروان والعقارب والأفاعي والذئاب والثعالب، وكل حيوان يسكن الصحراء. كان يقول: لا يمكن أن تفهم حيوانًا دون فهم البيئة التي يعيش فيها بالكامل، وموقعه فيها. وكذلك الإنسان، قد تجعله البيئة التي يعيش فيها ملاكًا أو شيطانًا. لا بد أن تعرف البيئة التي نشأ فيها”.
ويتابع: “كنا نقضي الليالي في الصحراء. كنا نشعل النار في المساء. وخلال الليل، كان يصحبني لمشاهدة ما يدور حولنا، هناك عالم تدب فيه الحياة ونحن نيام”.
ويردف: “علمني والدي، عندما كنت صغيرًا، رد فعل الحيوانات عندما ترانا أو ترى بعضها بعضًا. على سبيل المثال، تطير الحبارى باتجاه أشعة الشمس لتُعمي الصياد، أما الأرنب فيبحث عن مخبأ، بينما يستغل الغزال المساحة المفتوحة لرؤية مهاجمه. أما قيام الحيوان بالقفز رافعًا قدميه الأماميتين بعد العدو، فينبئ بحركة افتراسية، كأنه بمثابة تحذير”.
الشيخ راشد كان متواضعًا، بسيطًا، هادئًا، صاحب فراسة في فهم البشر، منفتحًا على الآخرين، يستمع بانتباه ويتحدث بمقدار
وهذا يعني أنه “لا بد من تكتيك وخطة للحصول على الطعام في الصحراء. كان والدي يقول: عندما تمضي الليلة وأنت جائع، ستتعلم دروسك بتركيز أكبر في صباح اليوم التالي”.
في الرابع من يناير 2026، سيكون قد مر ثلاثون عامًا على تعيين الشيخ محمد وليًا لعهد دبي، وعشرون عامًا على توليه حكم الإمارة التي كان والده يرشحه دائمًا ليواصل مسيرته في بناء نهضتها والارتقاء بها إلى مدن الصف الأول على صعيد العالم بأسره. يتحدث عن أسلوب والده في إعداده للتحدي الأعظم: “اهتم والدي كثيرًا بقدرتي على الملاحظة، وكان يختبرني مرات عدة، إلى درجة أنني اعتدت الاستيقاظ من النوم لأتبين موقعي، وأجيبه في حال سألني عن ذلك. وأثناء وجودنا في السيارة، كان يطلب مني وصف التضاريس، ثم يستمع إليّ، ويصحح ما أقوله، مقدمًا معلومات أكثر دقة. وأثناء حديثه مع أصدقائه، أو اجتياز السيارة الطريق الوعرة ليلًا، كان يلتفت وينظر إليّ بحزم، ليسألني: في أي اتجاه نسير؟ شمالًا أم جنوبًا، شرقًا أم غربًا”.
وأضاف: “اهتم والدي بتعريفي على تضاريس الأرض وعلاماتها، بالإضافة إلى علامات السماء، النجوم. النجوم هي بوصلة الصحراء، وفي الليالي الغائمة نستعين بالرياح وجهة شروق الشمس. كان يقول: الضياع في الصحراء أمر سهل جدًا، ويعتمد الفريق دائمًا على القائد ليحدد الطريق”.
في كتابه الجديد “علمتني الحياة” يقول الشيخ محمد: “رحم الله أبي: كلما تفكرتُ في حنكة أبي وحكمته، وحياته ومسيرته، أدركتُ كم تعلّمتُ منه، وكيف تأثرت بشخصيته”.
“تعلّمتُ من أبي بساطة العيش وضبط النفس، وألا أنشغل بالتفاهات، ولا أصدّق ضعاف العقول والتافهين. تعلّمت منه الإصغاء، ومتى أشتدّ ومتى ألين”.
“تعلّمتُ منه الوقار من غير تكلف، والتسامح تجاه الجهّال من الناس، والتلطّف مع الجميع. كان مجرد حضوره يفرض الإجلال على الجميع”.
“كان أبي قليل الغضب والانفعال، حسن النيّة والطويّة، لا يحبّ الخداع، ولا يجزع أو يهلع من أي أمر، بل هو ثابت واثق رصين. وإذا عبّر عن استحسانه عبّر بقدر وبدون محاباة».
في 24 سبتمبر الماضي، وجّه الشيخ محمد بن راشد بمضاعفة الجهود وإرساء معايير تنافسية لتكون دبي أفضل مدينة في العالم في جميع القطاعات، والعمل بروح الفريق الواحد لتكون دبي المدينة الأكثر جمالًا ورقيًا في العالم. كان بذلك يحقق حلمه اليقظ، ويفي بوعد غير معلن لوالده، الذي طالما كان يؤكد للمقربين منه أنه يرى نفسه وملامحه وصفاته وسجاياه ورؤيته وإصراره على النجاح والتميز في ذلك الابن الذي جعل من دبي مدينة من بين أفضل عشر مدن في العالم، وأفضلها على الإطلاق في العديد من المؤشرات.