ياسمين أبي ذاكرة تفوح عطرا

لم يكن والدي يحمل في جيبه بضع زهرات فحسب، بل كان يحمل رمزًا لأوطان؛ زهرة لا يفوح عبيرها من الأغاني فقط، بل ينتشر شذاها بين شرفات المدن العربية.
الثلاثاء 2025/09/30
رائحة الحنين.. وأمل التغيير

لوالدي عادة محبّبة؛ أن يملأ جيوبه بأزهار الياسمين عند خروجه إلى الجامع، ليتركها لاحقًا على مكتبي المنزلي. تفوح رائحة الزهرة البيضاء الزكيّة، فتأخذني بعيدًا في رحلة من الحنين، ووجدتني أفتّش عمّن تغنّى بها.

وأول ما طالعني عند استخدامي لمحرك البحث غوغل أغنية صينية استوقفني عنوانها “مو لي هوا”، وتعني “زهرة الياسمين”. راقتني التسمية، وأثارت فضولي للبحث أكثر بين الأغاني العربية، فاستأنست بأغنية الفنان الليبي الراحل نوري كمال “فكرتينا… يا زهرة الياسمين، فكرتينا في بسمته وأيام من ماضينا.”

وللياسمين، هذه الزهرة الأكثر حضورًا في صناعة العطور، مكانةٌ خاصة في الذاكرة الموسيقية الجماعية التونسية. يُشمّ عبيرها بين ثنايا أغنية الفنان التونسي الراحل الهادي الجويني “تحت الياسمينة في الليل”، وهي أغنية يحفظها التونسيون ويتوارثونها، ولا ينفك الفنانون العرب الزائرون لتونس عن ترديدها خلال حفلاتهم، حاملين “نسمة والورد محاذيني” بين حقائب أسفارهم.

قادني هذا البحث إلى اكتشاف أن الزهرة البيضاء العطرة لا تزال تفوح في أغانٍ تتجاوز حدود الزمان والمكان، متحدية الفواصل الجغرافية، لتتحوّل إلى لغة عالمية مشبعة بالذكريات، عطرها لا يُنسى، فمِن بين مَن تغنّى بها أيضًا سيدة الغناء العربي، أم كلثوم، حين صدحت بصوتها الساحر في إحدى روائعها: “الفل والياسمين والورد”.

وبكلمات سورية للشاعر الراحل نزار قباني، وألحان عراقية للفنان كاظم الساهر، وبصوت لبناني رخيم، غنّت ماجدة الرومي “طوق الياسمين”، لتؤكّد البعد الجغرافي والوجداني لزهرة النقاء “ذاك طوق الياسمين ..”.

الياسمين كلّ هذا وأكثر، فهو زهرة للسِّلم والحرب، للحُبّ والكره، للحلم واليقظة، هو ذاكرة وطن، وعطر لا يزول

رائحة الياسمين حملتني من بين أنغام الفنانين إلى عالم محمود درويش، الذي قال عنها في قصيدته “ليل يفيض من الجسد”: “إن الياسمين هو رائحة الأشياء الجميلة التي لم نجربها، ورائحة الغياب الذي يطول، ورائحة البحر والصّباح”. بكلماته اختصر ما يزرعه فينا أريج الياسمين من أشواق إلى الماضي .. إلى الغياب.

لم يكن والدي يحمل في جيبه بضع زهرات فحسب، بل كان يحمل رمزًا لأوطان؛ زهرة لا يفوح عبيرها من الأغاني فقط، بل ينتشر شذاها بين شرفات المدن العربية.

وحين أدقّق النظر في أزهار الياسمين المتناثرة على مكتبي، أرى أبعد من وريقاتها البيضاء الرقيقة، أرى أوطانا تنتفض، وأصواتا تردد “ديغاج” (ارحل)، فقد انطلقت من تونس شرارة “ثورة الياسمين”، لتكتب فصلاً جديدًا في تاريخ الشعوب، تحت ظلال زهرة تحمل رائحة الحنين وأمل التغيير.

الياسمين يحمل أكثر من دلالة تتجاوز ما يقطفه والدي يوميا، وما يحمله باعة “المشموم”، إنه زهرة تجمع بين طقوس الزواج والاحتفالات الدينية والمهرجانات، في أكثر من بلد، زهرة تنطق بمختلف اللغات دون أن تحتاج مترجما.

ويقال إن الزهور “تهذب النّفس والرّوح، كلّما نظرنا لها تعلّمنا درسا جديدا،” وكذلك الياسمين: كلما ملأت رائحته أنفي مخترقة أفكاري المركزة على لوح مفاتيح حاسوبي، حملتني بعيدا… أحيانا أجدني بين أزقة سيدي بوسعيد التي يجوبها بائعو الياسمين جيئة وذهابا، أو بين أصوات المنتفضين في الشارع الرمز الحبيب بورقيبة، أو بين شرفات حيّنا المزينة بشجيرات الياسمين، وأحيانا أخرى أجدني مندسة بين العشاق بأطواق ياسمينهم، أو في باقات أعراسهم، أو بين أصابع الفنانين. ثم أجدني في لحظة صمت أدوس فوق زهرات الياسمين الساقطة من أعالي شجيراتها، أو مستلقية فوق سريري المزيّن بالأزهار البيضاء الفوّاحة.

قد يقتصر تفكير والدي، حين يقطف الياسمين، على إسعادي، لكنه -دون أن يدري- يحمل إليّ في جيبه حكايات، بعضها رُوي، وبعضها الآخر لم يُروَ بعد، فهو لا يخبّئ بين كفّيه زهرات رقيقة سريعة العطب، بل يخبّئ قصة زهرة اجتمعت فيها كل الصفات ونقيضها: هي الفرح والحزن، الأشواق والمجافاة، البياض والسواد، الصفاء والكدر، النضارة والذبول…

الياسمين كلّ هذا وأكثر، فهو زهرة للسِّلم والحرب، للحُبّ والكره، للحلم واليقظة، هو ذاكرة وطن، وعطر لا يزول، وأثر جميل يتركه والدي يوميا على مكتبي، ليعكس محبته الصادقة، ولتحملني شذى روائحه الزكية، في كل مرة، إلى عوالم مختلفة… لا تشبه سوى الياسمين.

12