وهم الإصلاح في لبنان

اللبنانيون لا يحتاجون مبعوثا آخر يدعم الإصلاح التدريجي، بل التفكيك الكامل لنظام فاسد.
الأربعاء 2025/08/06
الفساد المسيّس مربط الفرس

قد يتصوّر المراقب العادي أن لبنان أصبح على أعتاب التغيير، فالعواصم العالمية تدعو إلى الإصلاح، ويتبادل نشطاء الشتات رسائل تفاؤلية، وأصبحت بيروت تحظى باهتمام شخصيات أميركية بارزة (بمن فيهم الدبلوماسي توماس باراك، رجل الأعمال ومطور العقارات الذي يشغل منصب سفير واشنطن لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا). وسواء كان ذلك عن قصد أم مجرّد مصادفة، يبدو أن باراك يلعب اليوم دورا أكثر نشاطا في لبنان، مستغلا الفراغ الذي تركته مورغان أورتاغوس نائبة المبعوث الأميركي الخاص السابقة للشرق الأوسط.

ما هي المشكلة إذن؟ إن شلل لبنان لا ينبع من نقص الأفكار، بل لأنه يبقى أسيرا.

لم تعد الدولة اللبنانية تعمل بصفتها مشروعا سياسيا متماسكا، بل أصبحت هيكلا فارغا، وواجهة للحكم السيادي. وهي تغطي نظاما تهيمن عليه مافيات طائفية، وخلفاء الميليشيات، ونخب مالية. هذه ليست دولة فاعلة، بل دولة مجزأة.

مبادرات الإصلاح لا تُعرقل فحسب، بل تُصادر وتُستغل وتُعاد صياغتها من قِبل الجهات المتسببة في انهيار النظام في المقام الأول.

في الحقيقة، لم تعمل الدولة اللبنانية يوما كمؤسسة موحدة، فلطالما كانت منقسمة بين أمراء حرب سابقين تحولوا إلى سياسيين، وفاسدين، وزعماء طوائف.

◄ لبنان لا يحتاج إلى خطة دبلوماسية جديدة. وتتطلب حالته الهدم المُنظّم. يجب هدم الهيكل القائم بالكامل مع إبعاد النخبة الحاكمة الفاسدة عن الحياة السياسية

ولا يُعارض الإصلاح صراحة في لبنان، بل يُبطله النظام نفسه الذي يدّعي دعمه. والمبادرات التي لا تسعى إلى تفكيك اتفاقية تقاسم السلطة ينتهي بها الأمر إلى ترسيخ الوضع الراهن بدلا من إحداث تغيير حقيقي.

ولا توجد شخصيات بريئة بين الطبقة الحاكمة في لبنان. وأسّس سياسيون من جميع الطوائف على مدى عقود جهازا فاسدا يستنزف الأموال العامة، ويستغل الفقر لتحقيق مصالحه، ويقايض السيادة الوطنية بالحماية الإقليمية.

حتى أولئك الذين يُصوَّرون على أنهم إصلاحيون غالبا ما يعملون ضمن هذا الإطار الفاسد. وقد يتبنّون خطابا إصلاحيا، لكنهم غالبا ما يكونون مجرد أقنعة النظام الأحدث.

المبعوثون الدوليون، مهما كانت نواياهم حسنة، يُخاطرون بالتورط في هذه المسرحية المأساوية، وينتهي بهم الأمر إلى إضفاء الشرعية على طبقة سياسية بارعة في أساليب البقاء السياسي بمجرّد دعمهم وجوها مألوفة (يُعتبر بعضها إصلاحية). ويُعدّ الاعتراف ثمينا في نظام يعتمد على الغموض وإدارة الأزمات.

لقد ترسخت التركيبة السياسية في لبنان، التي نشأت بموجب اتفاق الطائف عام 1989 للحفاظ على السلام بين الطوائف بعد الحرب الأهلية، لتتحول إلى تحالف جامد من النخب الطائفية التي تتعامل مع مؤسسات الدولة كإقطاعيات شخصية. فبدلا من الحكم الرشيد، تُخصص هذه النخب الموارد، وتُقدم الامتيازات، وتحافظ على سلطتها من خلال شبكات الفساد والمحسوبية.

ولا تريد هذه الطبقة الحاكمة رؤية أيّ إصلاح جوهري. ويبقى النقاش عن التغيير مُدبّرا بعناية، ولا معنى له في نهاية المطاف. ويُضمن البقاء السياسي بوعود فارغة، بينما يعاني الشعب اللبناني من الخراب الاقتصادي وفقدان كرامته.

◄ لبنان لا يحتاج إلى المزيد من المشاركة، بل إلى تفكيك نظامه السياسي ومؤسساته وهياكله المالية

إن حجم الانهيار الاقتصادي في لبنان هائل، حيث انخفضت قيمة العملة بأكثر من 90 في المئة، وتبقى البنوك مُشلولة، بينما خسر المواطنون إمكانية الوصول إلى مدخراتهم. وتضاعف التضخم، ويعيش أكثر من نصف السكان الآن تحت خط الفقر. كما تآكلت الطبقة الوسطى التي كانت مزدهرة في السابق، إلى جانب أيّ أمل عملي في التعافي.

في ظلّ الانهيار الاقتصادي والسياسي الحاد الذي يواجهه لبنان، سحبت دول الخليج، التي لطالما كانت داعمة مالية رئيسية ومؤثرة إقليميا، دعمها إلى حد كبير. ولم تعد دول مثل السعودية والإمارات وقطر والكويت ترى جدوى في الاستثمار في لبنان، إذ تعتبره بؤرة سوداء للفساد. ويبقى منطقها عمليا: لا يوجد حافز يُذكر لدعم نظام لا يُفيد مصالحها الإستراتيجية ولا يدعم رفاهية الشعب اللبناني.

وينطبق الأمر نفسه على المانحين الغربيين، الذين اختفت أموالهم مرارا وتكرارا دون رقابة.

وزاد هذا الفراغ من تعميق أزمة لبنان. ولا يزال حزب الله، المدعوم من إيران، أقوى جماعة مسلحة في البلاد. ويمارس نفوذا غير متناسب ويدير ميليشيا موازية، بما يُقوّض سلطة الدولة بشكل مباشر. كما حوّلت الصراعات الإقليمية لبنان إلى ساحة معركة جيوسياسية، بدلا من دولة ذات سيادة تتحكم في مصيرها.

وبينما قد يعتقد توماس باراك أن الحوار والمشاركة كفيلان بإحداث تقدم، يعيش لبنان في ظل واقع مختلف. ولا نتحدث هنا عن دولة منهكة بحاجة إلى إصلاح، بل عن نظام تسيطر عليه مصالح راسخة تقاوم الإصلاح بنشاط. حتى الشخصيات السياسية “الجديدة”، إذا ارتبطت بترتيبات تقاسم السلطة القائمة، سرعان ما تُدمج في نفس الآلية.

◄ مبادرات الإصلاح لا تُعرقل فحسب، بل تُصادر وتُستغل وتُعاد صياغتها من قِبل الجهات المتسببة في انهيار النظام في المقام الأول

يحتاج لبنان إلى إجراءات عقابية ملموسة بدلا من العبارات الدبلوماسية المبتذلة: لا تعبيرات عن القلق، بل عقوبات. لا مؤتمرات للمانحين، بل تحقيقات مالية شاملة. لا دعما تمثيليا من المجتمع المدني، بل محاسبة حقيقية للمسؤولين عن الانهيار المالي، وكارثة المرفأ، ونهب القطاع المصرفي، وعقود من الفساد الممنهج دون عواقب.

ويدرك اللبنانيون هذه الحقيقة أفضل من الكثير من المراقبين الدوليين. لقد تأثرت حياتهم بدورة من إدارة الأزمات التي تُفيد الآخرين. وجُرِّدوا من كرامتهم، واستُنزفت مدخراتهم، وتزعزع إيمانهم بالمؤسسات. ونجدهم يواصلون المطالبة بالعدالة.

لا يحتاج لبنان إلى خطة دبلوماسية جديدة. وتتطلب حالته الهدم المُنظّم. يجب هدم الهيكل القائم بالكامل مع إبعاد النخبة الحاكمة الفاسدة عن الحياة السياسية. لا يعني هذا إعادة تشكيلها أو تغيير هويتها، بل محاسبتها في المحكمة، لا الاحتفاء بها في المؤتمرات.

إلى أن يحدث هذا، تبقى جميع خطط الإصلاح مجرد مسرحية. وأيّ مسؤول أجنبي يتعامل مع النظام الحالي دون معالجة فساده المُتجذر يُخاطر بالتواطؤ. وليست أزمة لبنان نتيجة سياسات رديئة، بل هي نتيجة فشل مُدبر ومُخطط له. وليس المسؤولون عنها شركاء يمكن التفاوض معهم.

وقد يؤمن باراك (مثل الكثيرين من قبله) بالمشاركة البناءة. لكن لبنان لا يحتاج إلى المزيد من المشاركة، بل إلى تفكيك نظامه السياسي ومؤسساته وهياكله المالية. ويحتاج إلى تحقيقات جنائية، وتحقيق العدالة في انفجار المرفأ، والمحاسبة الكاملة عن سنوات من النهب. وفوق كل شيء، يحتاج إلى قطيعة كاملة مع الكارتلات السياسية المتخفية في زي الأحزاب السياسية.

شهد المواطنون اللبنانيون تكرارات لا حصر لها من هذه المسرحية. ولا يحتاجون مبعوثا آخر يدعم الإصلاح التدريجي، بل التفكيك الكامل لنظام فاسد. وإلى أن يحدث ذلك، فإن كل أجندة إصلاحية جديدة ليست سوى إعادة صياغة شكلية، وكل شخصية دولية حسنة النية تُخاطر بأن تصبح طرفا في نفس المشهد السياسي المتكرر: إنتاج ينظمه مجرمون، وتُموّله قوى أجنبية، ويعاني من تبعاته شعب يستحق الأفضل بكثير.

6