واشنطن بين الواقعية والضغوط في قمة بودابست
بنظرة تحليلية واقعية، تُعتبر روسيا جزءًا لا يتجزأ من التاريخ الأوروبي على مدار 600 سنة، لكنها تنفرد بحجمها الكبير، وهي أيضًا جزء لا يتجزأ من آسيا والشرق. فهي بين رغبتها تاريخيًا في أن تصبح دولة أوروبية، وبين خوفها من أن تتفوق عليها أوروبا، وخوف أوروبا في الوقت نفسه من حجم روسيا، وكذلك خوف أميركا من التحالف الروسي–الأوروبي الذي يجعل أوروبا أقل حاجة إلى الولايات المتحدة. لكن حالة العجز في مواجهة الغرب لروسيا ستدفعها إلى إطلاق توترات جديدة، وهو ما يجعل السعودية ترفض التمحور وتتجه نحو إقامة علاقات مع الجميع، وشجعت الرئيس السوري على زيارة روسيا لتطبيع العلاقات والحفاظ على وحدة سوريا، وكذلك زيارة الشرعية اليمنية لروسيا حتى لا يحصل الحوثي على دعم روسي.
منذ حرب السويس عام 1956 أثبتت الولايات المتحدة أنها القوة العظمى، وأنها لا تسمح لأحد باللعب في ساحة الشرق الأوسط. ومنذ ذلك الوقت كانت ألمانيا مقسمة بين القوتين، فيما اختارت فرنسا أن تقف معارضة لأميركا في أوروبا، بينما اختارت بريطانيا التحالف مع الولايات المتحدة، بل خرجت من الاتحاد الأوروبي. لكن بعدما توحدت ألمانيا بعد نهاية الحرب الباردة أصبحت الاقتصاد الأقوى في أوروبا، وفي زمن ميركل حاولت تعزيز علاقتها بروسيا للحصول على الغاز الرخيص لتعزيز الصناعات الألمانية، فأنشأت “نورد ستريم 2” عبر بحر البلطيق، مما أزعج الولايات المتحدة التي كانت سببًا في رفض إعطاء روسيا ضمانة بعدم توسع الاتحاد الأوروبي نحو الشرق، وهو ما كان سببًا في شرارة تلك الحرب.
موسكو تعوّل كثيرًا على أن الأوروبيين يفتقدون الثقة في الولايات المتحدة والتزاماتها بموجب المادة الخامسة من معاهدة واشنطن في حال اندلاع حرب مع روسيا
دونالد ترامب رئيس أميركي لكنه يختلف عن الرؤساء الأميركيين؛ فهو يدرك إرث فيتنام وبقية الحروب في أفغانستان والعراق وغيرها. ولا يمكن أن تبقى الصين بحجمها الضخم خارج النظام العالمي. وإذا لم تقبل الولايات المتحدة بعودة تايوان للصين فلن تقبل الصين أن يتم نزع سلاح كوريا الشمالية. ومع تعاظم قوة الصين، تمتلك القدرة على تهديد سيطرة الولايات المتحدة على التقنيات الحديثة في عصر الطاقة النووية.
لذلك تسعى بعض الدوائر السياسية الأميركية لتكرار نجاحات كيسنجر مع الصين عبر التقارب مع روسيا لموازنة صعود الصين. فهي فكرة غير قابلة للتحقق على غرار الانفتاح الأميركي على الصين عام 1972 في عهد نيكسون، في ظل الشراكة الإستراتيجية العميقة وتقارب المصالح الإستراتيجية والاقتصادية بين البلدين. لكن هناك مسؤولين يرون أن على واشنطن إعادة تحقيق التوازن في علاقتها مع روسيا، لأن من مصلحة الولايات المتحدة الإستراتيجية الدائمة ألا تحول دون ازدياد عمق التحالف بين موسكو وبكين. ويبدو أن ترامب يتبع هذا النهج ويؤمن به ويتقبله، ويُسمى بـ”نهج كيسنجر المعاكس”. وهي ذريعة مثالية لتودد ترامب لبوتين تقنع الأميركيين الذين يكرهون بوتين، لكن بهذا التودد يقنع ترامب الكارهين لبوتين بأنه سلوك براغماتي وواقعي سياسي. ولا تعني هذه المقاربة، كما في سبعينيات الحرب الباردة، أنها مغلوطة؛ ففي ذلك الحين استغلت الولايات المتحدة الانقسام العميق بين موسكو وبكين، أما اليوم فلا يوجد مثل هذا الانقسام، بل على العكس أصبحت بكين وموسكو شريكين استراتيجيين يريان في الولايات المتحدة التهديد الأكبر.
تتجه الأنظار إلى العاصمة المجرية بودابست التي يُفترض أن تحتضن اللقاء بين الزعيمين، ولا تزال الخلافات قائمة حول إمكان إنهاء الغزو الروسي لأوكرانيا بعد مكالمة هاتفية مطولة بين الرئيسين ترامب وبوتين. ورغم الموقف الروسي المتشدد، فإن نائبة المتحدثة باسم البيت الأبيض، آنا كيلي، قالت إن الرئيس ترامب يعمل باستمرار على إيجاد حل سلمي ودبلوماسي لإنهاء الحرب العبثية ووقف إراقة الدماء، وإن الإدارة ملتزمة بالسعي نحو تسوية واقعية تعيد الاستقرار إلى أوروبا.
يسمي لافروف، وزير خارجية روسيا، الغزو الروسي لأوكرانيا “العملية العسكرية الخاصة”، معتبرًا أنها تسير وفق خططها وستكتمل بنجاح. واعتبر أن وقف إطلاق النار في حد ذاته لا يعني السلام، وقال: “نريد تسوية دائمة تعترف بالواقع الجديد على الأرض”. فيما يرى الأوروبيون أن قمة بودابست ستكون اختبارًا لقدرة ترامب على دفع موسكو إلى تنازلات رمزية على الأقل.
تبدو واشنطن في سباق مع الوقت لإثبات أن مبادرتها ليست مجرد عرض سياسي بل خطوة جادة نحو إنهاء حرب استنزفت الجميع. فهل تنجح دبلوماسية ترامب في فرض تسوية؟
يريد ترامب، منذ وصوله إلى البيت الأبيض، تبني نهج الصفقة الواقعية بدلًا من المواجهة الطويلة، لأنه يرى أن استمرار الحرب بلا أفق سياسي يضعف صورة القيادة الأميركية ويستنزف مواردها. وقد تختار إدارة ترامب تجميد خطوط القتال الحالية كخيار عملي وحيد على المدى القريب. وطالب ترامب بوقف الحرب عند خطوط الجبهة لأن استمرارها يجعل الحل مستحيلًا، ويعتبر أن أوكرانيا بإمكانها أن تنتصر ولكن عبر “السلام الذكي”. لكنها تثير انقسامًا داخل واشنطن، إذ يرى بعض الجمهوريين أنها خطة لإنقاذ روسيا، بينما يرى جناح آخر أنها الطريق الوحيد لتجنب حرب أوروبية طويلة.
وفي مقابل الدعوات الأوروبية لإعلان هدنة مؤقتة، ودعمهم لجهود ترامب وفكرته لتجميد الصراع مؤقتًا، باعتبار أن خطوط التماس الحالية في أوكرانيا يجب أن تكون نقطة بداية لمفاوضات سلام محتملة، وقّع رؤساء بلدان بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا على أنه لا بديل عن الالتزام بمبدأ عدم تغيير الحدود الدولية بالقوة. لكن موسكو تصر على تمسكها بالإطار الذي رسمته التوافقات التي خرج بها بوتين وترامب في قمة ألاسكا، مجددة رفض أي هدنة مؤقتة، ومؤكدة أن وقف إطلاق النار دون معالجة الأسباب الجذرية للصراع يتناقض مع الاتفاقات التي توصل إليها الرئيسان الروسي والأميركي في ألاسكا، في مدينة أنكوريج، عندما اتفقا على التركيز على الأسباب الجذرية.
تعوّل موسكو كثيرًا على أن الأوروبيين يفتقدون الثقة في الولايات المتحدة والتزاماتها بموجب المادة الخامسة من معاهدة واشنطن في حال اندلاع حرب مع روسيا، وأن حلفاء الناتو الأوروبيين يستعدون للحرب مع روسيا. وقد تم تزويد قوة الردع السريع التابعة للحلف بجميع الموارد اللازمة بسرعة، وبدأت عملية زيادة الإنتاج الصناعي العسكري الأوروبي بشكل كبير، وتم تنظيم مناورات التعبئة والحملات الدعائية حول “عدوان موسكو الحتمي” المزعوم.
لذلك يرى مراقبون أن مستقبل الحرب الروسية–الأوكرانية لم ينضج بعد نحو الحل، بل هو مقبل على ثلاثة مسارات رئيسية: إما تجميد مؤقت للقتال من دون تسوية شاملة، وهو ما تعتبره واشنطن خطوة واقعية وتخشاه موسكو؛ أو تسوية جزئية تشمل تنازلات حول دونباس، وهو السيناريو الذي ألمح إليه ترامب حينما قال إن المنطقة تُترك مقطعة كما هي، وهو ما يرفضه الأوروبيون؛ أو فشل المفاوضات وعودة التصعيد. وتبدو واشنطن في سباق مع الوقت لإثبات أن مبادرتها ليست مجرد عرض سياسي بل خطوة جادة نحو إنهاء حرب استنزفت الجميع. فهل تنجح دبلوماسية ترامب في فرض تسوية؟