ملامح نظام أمني جديد في الخليج
تدرك السعودية التحولات الدولية، فهناك تصريح للأمير تركي الفيصل بأن العالم يودّع النظام أحادي القطب، وهو ما يقود إلى تهاوي النظام الدولي وينتج عنه تصاعد النزاعات، وأن واشنطن لم تعد قادرة على فرض أحاديتها. وهناك صعود الصين وروسيا والهند بما يعمّق الاستقطابات، مما يفرض تعاونًا إقليميًا لمواجهة التحديات. أي أن هناك فراغًا، وبدلًا من أن تملؤه إسرائيل بعد تحجيم قدرات إيران، فإن السعودية جاهزة لملئه، خصوصًا وأنها تمتلك كل الإمكانيات لذلك. ويأتي هذا في ظل تعهّد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد، في لقاء سابق بتحويل المنطقة إلى “أوروبا الجديدة” بديلًا عن الأيديولوجيات التي سادت في المنطقة في الفترة الماضية، وتوعّد بالقضاء عليها بعدما كانت سببًا في خلق صراعات وحروب.
تقود السعودية والإمارات وبقية دول الخليج تنمية اقتصادية هائلة تلتقي مع أوروبا بشكل خاص بعد الحرب الروسية في أوكرانيا. وقد فضّل ترامب لقاء ألاسكا مع بوتين وترك تداعيات تلك الحرب للأوروبيين، فأصبحوا بحاجة إلى الطاقة من دول مجلس التعاون الخليجي، بعدما اتخذت أوروبا قرار وقف شراء الطاقة من روسيا. وهو ما جعل السعودية تستثمر هذه الفرصة لتشكيل تحالف مع أوروبا لإنهاء الصراع التاريخي في فلسطين. وقد نتج عن تلك الشراكة موافقة ثلثي أعضاء الأمم المتحدة، من أصل 193 عضوًا، على إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهو ما شكّل عزلة لإسرائيل ويفرض على الولايات المتحدة الانخراط في الإجماع الدولي.
كذلك فإن الصين بحاجة إلى الطاقة من دول مجلس التعاون الخليجي، وكذلك الهند، فيما الولايات المتحدة ليست بحاجة إلى النفط الخليجي لكنها لا تستطيع الابتعاد عن المنطقة حتى لا تستفرد الصين بها. ونلاحظ مطالبة ترامب بقاعدة باغرام في أفغانستان، خصوصًا بعدما ضمنت بكين الاتفاق بين السعودية وإيران، وهو ما أزعج الولايات المتحدة وإسرائيل. وأصبحت المواجهة بين إيران ووكلائها من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، بينما التزمت السعودية الحياد.
اتفاقية الدفاع الاستراتيجي بين السعودية وباكستان بمظلة نووية في سبتمبر 2025 تمثل تحولًا غير مسبوق تعزز الأمن الجماعي وتمنح البلدين مكانة إقليمية متقدمة وتعيد رسم موازين القوى
لكن توجه إسرائيل إلى ضرب الدوحة في 9 أيلول – سبتمبر كان له تداعيات إستراتيجية على مصداقية الولايات المتحدة. وقد انتفضت دول مجلس التعاون الخليجي بإقامة قمة عربية إسلامية في 15 أيلول – سبتمبر 2025، وكانت أهم مخرجاتها بحث دول المجلس عن تفعيل الأمن الجماعي. ثم أتت زيارة لاريجاني للسعودية وبحث سبل توسيع التعاون السياسي والأمني والدفاعي، وذلك بعد يوم من لقاء الأمير محمد بن سلمان في الدوحة مع الرئيس الإيراني مسعود بيزشكيان. لكن اللافت أنه في 17 أيلول – سبتمبر تم توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجي المتبادل بين السعودية وباكستان بمظلة نووية ردعية تفرض قيودًا إستراتيجية جديدة على عمليات إسرائيل الإقليمية.
هذه الترتيبات تمثل مكسبًا استراتيجيًا هادئًا للصين. فقد أتت تلك الخطوة بعد رعاية بكين تهدئة بين السعودية وإيران في آذار – مارس 2023، وهو ما يمنح بكين نفوذًا متزايدًا في منطقة هيمنت عليها الولايات المتحدة تقليديًا لعقود. لكن ما حدث يعزز نفوذ الصين على حساب نفوذ الولايات المتحدة، خصوصًا وأن نفوذ الصين معزّز بمبادرة “الحزام والطريق”، وجميع هذه الدول مشاركة فيها.
وقد فضّلت السعودية إبرام اتفاق دفاعي مشترك بمظلة نووية مع باكستان بسبب العلاقة الروحية المتجذّرة بين البلدين منذ زمن طويل. ففي عام 1943 بحثت باكستان عن دعم مالي من أجل استقلالها، ورغم حاجة السعودية في ذلك الوقت فإنها تبرعت بعشرة آلاف جنيه إسترليني من الملك عبد العزيز لباكستان. وفي عام 1946 قدّم الوفد السعودي برئاسة الأمير فيصل بن عبد العزيز، عندما كان وزيرًا للخارجية، الوفد الباكستاني إلى العالم في الأمم المتحدة برئاسة ميرزا أبو الحسن. وفي عام 1953 زار رئيس باكستان غلام محمد الملك عبد العزيز والتقاه في قصر المربع. واستمر التعاون الدفاعي المشترك بعد ذلك، وبشكل خاص في عام 1982 حيث كان هناك تعاون وتدريب عسكري بين الجانبين.
كما تكفّلت السعودية بدعم البرنامج النووي الباكستاني. وفي فبراير 2025 عقد البلدان اتفاقية تعاون دفاعي مشترك، تحوّلت في 17 أيلول – سبتمبر 2025 إلى اتفاق شامل بمظلة نووية، رغم عدم الإعلان عن تفاصيلها الدقيقة. وستحصل باكستان بموجبها على فوائد إستراتيجية واقتصادية، وتعزز مكانتها كمركز إقليمي في مجال الأمن. وهي خطوة إستراتيجية غير مسبوقة لكلا البلدين، وتمثل تحوّلًا استراتيجيًا مهمًا.
تأتي هذه الاتفاقية كتنويع لشراكة إستراتيجية طويلة الأمد، تمنحها صفة رسمية ملزمة لأول مرة منذ عقود، ويمكن أن تصبح حجر زاوية في إستراتيجية الأمن الجماعي.