هل تعيد المحاكمات في قضايا الفساد الحياة للصحافة المستقلة في الجزائر

المحاكمة هي جزء من جهود أوسع لمحاسبة المسؤولين السابقين على فسادهم، لكنها تثير تساؤلات حول مدى فعاليتها في إصلاح الإعلام وتعزيز الحريات.
السبت 2025/10/18
"سلطة الهاتف" أغلقت صحفا

الجزائر- التمس ممثل الادعاء العام في الجزائر حبس وزيرين سابقين للاتصال في عهد الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، وذلك في إطار محاكمة متهمين في ملف فساد يتعلق بالوكالة الوطنية للنشر والإشهار (ANEP).

وكشفت القضية، التي تثير اهتماما واسعا في الجزائر، عن ممارسات فساد مالي خلال عهد بوتفليقة، حيث استُخدمت الوكالة لتوزيع الإعلانات العمومية بشكل غير قانوني لدعم الإعلام الموالي وإثراء المسؤولين.

وطالب الادعاء العام بإيقاع أقسى العقوبات الممكنة بموجب القانون الجزائري (قانون العقوبات والوقاية من الفساد)، مع التركيز على جرائم سوء استخدام الوظيفة، تبديد المال العام، والاستفادة غير القانونية.

في هذا السياق طالب بالحبس 10 سنوات نافذة في حق كل من جمال كعوان محفوظ والمدير السابق لوكالة الوطنية للنشر والإشهار والوزير الأسبق للاتصال بين عامي 2014 و2019، بتهمة توجيه عقود الإعلانات لصحف موالية مقابل دعم سياسي، مما أدى إلى خسائر مالية هائلة للخزينة العامة. كما طالب حبس أمين شيكر الرئيس المدير العام الأسبق للوكالة أيضا 10 سنوات نافذة بسبب دوره الرئيسي في تنفيذ الصفقات الوهمية وتلقي عمولات سرية.

كما طالب الادعاء بحبس حميد قرين الوزير الأسبق للاتصال خلال المدة 2002-2012، 6 سنوات حبسًا نافذًا. يُتهم قرين بإصدار تعليمات شفهية لتخصيص الإعلانات لمصالح شخصية وسياسية، مما ساهم في "سلطة الهاتف" التي سيطرت على الإعلام.

والتمس الادعاء عقوبات تتراوح بين 5 و8 سنوات حبسًا نافذًا في حق بقية المتهمين (عددهم غير محدد في النص، لكنهم يشملون مسؤولين آخرين في الوكالة أو الوزارة المتورطين في التوزيع غير القانوني).

هذه الطلبات تأتي بعد شهادات من صحفيين ومديري صحف متضررين، أكدوا كيف أدى الحرمان من الإعلانات إلى إفلاس منشورات مستقلة مثل "الحياة" و"الوطن"، بينما استفادت صحف موالية.

تعد قضية الوكالة الوطنية للنشر والإشهار واحدة من أبرز ملفات الفساد في الجزائر بعد ثورة الحراك الشعبي في 2019، التي أطاحت ببوتفليقة.

وتكشف القضية كيف تحولت الوكالة، التي تتحكم في توزيع الإعلانات الحكومية (ملايين الدينارات سنويًا)، إلى أداة للرقابة الإعلامية والابتزاز السياسي.

في مارس 2023، أدى التحقيق الأولي إلى حبس كعوان وشيكر مؤقتًا، ووضع قرين تحت الرقابة القضائية، مع كشف خسائر تصل إلى ملايير الدينارات بسبب صفقات وهمية وعمولات سرية.

وأكد البيان الرسمي لمجلس قضاء الجزائر في 2025 أن هذه الوقائع "تسببت في تبديد للمال العام"، مما يعزز الطلبات القاسية الحالية.

وهذه المحاكمة جزء من حملة أوسع ضد الفساد تحت رئاسة عبد المجيد تبون، حيث حُكم على عشرات المسؤولين السابقين بالسجن.

وتعزز هذه المحاكمات صورة تبون كمحارب للفساد قبل الانتخابات المحلية في 2026، لكن كثيرين رغم ذلك يشككون في دوافع المحاكمات، مما يعكس التوتر المستمر في المشهد السياسي والإعلامي الجزائري.

وتساءل معلقون "متى تُحاسب الأسماء الكبيرة الحالية"؟ فيما قال آخرون "لكن هل ستُعيد هذه المحاكمات الحياة للصحف التي أُغلقت بسبب سياساتهم؟ الصحافة المستقلة دفعث الثمن".

وترى منظمات مثل "مراسلون بلا حدود" في المحاكمات فرصة لإصلاح الإعلام، لكنها تنتقد التركيز على الماضي دون معالجة الرقابة الحالية، حيث تحتل الجزائر المرتبة 136 عالميًا في حرية الصحافة.

وتأمل وسائل إعلام جزائرية في صورة صدور أحكام نهائية مرتقبة في نوفمبر القادم، في تعويض الصحف المتضررة وتعزيز الشفافية في توزيع الإعلانات، خاصة بعد إنشاء هيئة مستقلة في 2023.

وفي عام 2023، أُنشئت هيئة مستقلة لتوزيع الإعلانات العمومية لتجنب سيطرة الوكالة الوطنية للنشر والإشهار، لكن فعاليتها لا تزال محل شك. وتدعو منظمات  إلى إصلاحات جذرية لتعزيز حرية الصحافة، التي لا تزال تعاني من الرقابة والتضييق.

وكمثال على الاستخدام السياسي للوكالة الوطنية للنشر والإشهار فقد حرمت صحيفة "الوطن" سابقا من الإعلانات بعد نشرها تقارير عن فساد نظام بوتفليقة، ما دفعها إلى التذكير بأزمتها يوليو الماضي قائلة "نحن نواجه الاندثار".

وتعد جريدة “الوطن” من بين أرقى الجرائد التي ظهرت في الجزائر عام 1990. وهي صحيفة تهتم بالقضايا الدولية ومن قرائها العديد من الدبلوماسيين الأجانب في الجزائر، حتى أن البعض يلقبها بـ”لوموند” الجزائرية.

كما مارست السلطات سابقا ضغوطا شديدة على الشركات العمومية والخاصة -جزائرية كانت أم أجنبية- لتتوقف وتمتنع عن شراء مساحات إعلانية على صفحات جريدة “الوطن” بسبب خطها التحريري “المستقل”، لتتأثر رويدا رويدا بهذا القرار إلى درجة أنها تسير اليوم نحو الخروج من المشهد الإعلامي الجزائري.

وتمر الصحافة الجزائرية الخاصة بفترة عصيبة؛ فبعدما أرغمت الكثير من الجرائد التي أسست بعد الانفتاح الديمقراطي في تسعينات القرن الماضي على التوقف عن الصدور، مثل جريدة “لوماتان” التي كانت تصدر بالفرنسية في عهد بوتفليقة الذي زج بمديرها محمد بن شيكو في السجن لأكثر من عام بسبب نشره كتابا تضمن انتقادات بحقه، جاء دور جريدة “ليبيرتي” التي كان يملكها رجل الأعمال الثري أسعد ربراب بغلق أبوابها في 14 أبريل 2022 لأسباب “مالية واقتصادية”.

وما إن أوشكت صدمة اختفاء يومية “ليبيرتي” من المشهد الإعلامي الجزائري على التبدد حتى جاءت صدمة أخرى لتهز عالم الصحافة؛ حيث دخلت جريدة “الوطن” التي تصدر بالفرنسية نفقا مظلما بسبب نقص الموارد المالية التي تجنيها عبر الإعلانات وتسببت في إضراب العاملين فيها قبل سنوات.

 

5