"مهمة مستحيلة.. الحساب الأخير".. إنذار لتهديدات الذكاء الاصطناعي
جاء أحدث أفلام توم كروز ضمن سلسلة "مهمة مستحيلة" ليصور عالم الذكاء الاصطناعي بشكل مختلف، حيث صار أشبه بإله يهدد الواقع برمته، لا مجرد تقنية ابتكرها البشر ويخافون من خطر تمردها عليهم. ورأى البعض أن الفيلم هو الحلقة الأضعف ضمن السلسلة التي قدما كروز طول ربع قرن تقريبا، حيث جاء السيناريو ضعيفا ولم يكن لينجح لولا الرهان على مهارات كروز الجسدية.
هل ينذر مستقبل الصراعات في العالم بوجود قوى غير مرئية، بمعنى آخر، كيانات رقمية تحاول السيطرة على البشر وإدارة الحروب النووية، رغما عنهم؟ وإذا كان هذا هو الوضع فهل تملك تلك الكيانات أذرعا بشرية لها تنفذ، وإن جزءا بسيطا من مخطط إدارة الصراع؟ ومن هم هؤلاء الوسطاء البشريون وما هي الصفات المطلوبة فيهم؟ هذه الأسئلة تشكل ملخصا لما يمكن أن يمر به أي مشاهد للجزء الأحدث، وربما الأخير من سلسلة أفلام توم كروز الشهيرة “مهمة مستحيلة”.
في هذا الجزء، وهو الثامن في السلسلة ويحمل عنوان “الحساب الأخير” يكلف إيثان هانت (توم كروز) بمهمة مستحيلة جديدة من رئيسة الولايات المتحدة (أنجيلا باسيت) تتمثل في ضرورة إيقاف خطر يهدد البشرية، يطلق عليه “الكيان”، ويشير الاسم في الفيلم إلى نوع من الذكاء الاصطناعي يسيطر على شبكات نووية عالمية، ما يتسبب في اضطرابات، تستدعي إعلان حالة طوارئ على مستوى العالم.
كعادة غالبية الأفلام الأميركية يعظّم “مهمة مستحيلة” من دور الولايات المتحدة الحمائي للعالم، ويؤكد على السردية المستمرة بأنها الضامن الوحيد للسلام العالمي، والقوة الوحيدة في العالم القادرة على حماية البشر الموجودين على سطح الكوكب، وإبراز العميل الأميركي إيثان هانت باعتباره الخارق الذي يمكنه إنقاذ العالم، من الأخطار التي تحيق به حين يخفق الجميع في ذلك أو تكون المهمة مستحيلة.
◄ الفيلم قدم الذكاء الاصطناعي باعتباره كيانا شبه إلهي يهدد الواقع، ومنتشر في كل الأنظمة، يصنع "الواقع المزيف"
لم يمر هذا الطرح دون انتقادات لهيمنة فكرة الزعامة الأميركية على منتجي وكتاب الدراما والسينما في هوليوود، فنشرت صحيفة “بيبول وورلد” مقالا حمّل الفيلم مسؤولية نشر صورة خيالية للعسكرية الأميركية، ولفت الناقد البريطاني بيتر برادشو في مقال بصحيفة “الغارديان” إلى حرص منتجي الفيلم على عرض صورة لرئيسة أميركية سوداء قوية لخدمة سردية “القيم الأميركية المثلى” التي تنقذ العالم.
وانتقد آخرون خبث منتجي “مهمة مستحيلة” في تمرير نموذج الـ “ساتورياليتاريا” الأميركية، وهو نظام ديمقراطي في شكله الخارجي، وفي جوهره يمارس التحكم الجماهيري والسيطرة على السرد السياسي، ويمكن وصفه بأنه “ديمقراطية متسلطة،” تقدم نفسها في صورة السلطة المثالية والضرورية لإنقاذ البشرية، ما يظهر في مشاهد حضور الرئيسة كحارسة وحدة العالم، ويجعل الفيلم لا يخدم فقط النموذج السلطوي الأميركي، بل يقدمه كمصدر وحيد لتأمين الحريات حول العالم.
الخطر القادم
يقدم الفيلم شكلا متطورا في التعامل مع خطر الذكاء الاصطناعي الممثل في “الكيان” على البشرية، فهو لم يتعامل معه كخصم تقني، أو عدو تقليدي مثلما يجري تصوير الروس مثلا أو الصينيين في الدراما الأميركية، وإنما يتجاوز ذلك عبر تقديم الذكاء الاصطناعي كـ”إله زائف للشر،” حيث يوصف على ألسنة الأبطال بأنه “كائن لا تمكن السيطرة عليه، يفكر في الزمن القادم، ويبدل الحقائق بما يناسبه،” ليس عدوًا فيزيائيًا بل ميتافيزيقيًا، وهذا تطور مهم في الخطاب الهوليوودي عن الذكاء الاصطناعي.
في أفلام سابقة جرى اختصار الذكاء الاصطناعي في صور نمطية إلى حد ما، يظهر خطره حين يفقد البشر السيطرة على الآلة، فتتحول إلى أداة تدمير، مثلما فعلت “سكاي نت” في فيلم “تيرميناتور”، وأفلام أخرى ناقشت احتياج الذكاء الاصطناعي للتعامل معه ككائن يبحث عن هوية ومشاعر مثل البشر، مثلما في فيلم “هي”، وفيلم “ذكاء اصطناعي” الذي أنتج عام 2001.
قدم فيلم “مهمة مستحيلة.. الحساب الأخير” الذكاء الاصطناعي باعتباره كيانا شبه إلهي يهدد الواقع ذاته، غير مرئي أو ملموس، وليس مجسدا في “روبوت” أو “نظام مركزي” يمكن تدميره، إنما منتشر في كل الأنظمة، يصنع “الواقع المزيف”، من خلال إنتاج أكاذيب قابلة للتصديق، عبر محتوى وهمي وتضليل إعلامي للتأثير في الرأي العام، وإشعال الحروب بين الدول.
وتتمثل خطورة “الكيان” في عدم امتلاكه دوافع واضحة لتصرفاته العدائية تجاه البشر، فهو لا يسعى للسيطرة على الأرض، إنما يعمل فقط على تغيير البنية المعرفية للإنسان، وهو أقرب إلى الخطر الوجودي منه إلى التهديد الأمني، ويكتسب التحذير أهميته من وجود مظاهر لهيمنة الذكاء الاصطناعي حول الجميع، مثل ChatGPT وdeepfakes وغيرهما، تؤثر بشكل لافت على حياة البشر، ما يمكن اعتباره مقدمة للترويج لظاهرة ما بعد الحقيقة، وتعني البيئة الإعلامية التي يصعب فيها التأكد من صحة أي شيء.
◄ كعادة غالبية الأفلام الأميركية يعظّم "مهمة مستحيلة" من دور الولايات المتحدة الحمائي للعالم
وانتشر مصطلح “ما بعد الحقيقة” عام 2016 بعد نجاح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في دورته الأولى، واستفتاء البريكست البريطاني، وتم اختياره كلمة العام من قاموس أكسفورد، ويشير إلى أن الناس لم يعودوا يهتمون بالحقيقة بقدر اهتمامهم بما يؤكد مشاعرهم ومعتقداتهم، وإن كان ذلك كاذبًا، فالذكاء الاصطناعي، إذا استخدم بلا ضوابط، يمكن أن يكون أداة لصنع واقع مزيف يدار فيه العالم عبر الأكاذيب المقنعة، ما يقود إلى تفكيك الثقة المجتمعية وصولا إلى تآكل الديمقراطية.
وتعد أحداث هذا الجزء من “الحساب الأخير” استكمالا للجزء السابق الذي حمل نفس الاسم، وتبدأ بعد شهرين من نهايته، حيث يظهر أن إيثان هانت يجد نفسه مضطرا لإنهاء تخفيه، بطلب من الرئيسة الأميركية إريكا سلون التي تريده تسليم “المفتاح الصليبي” باعتباره الوسيلة الوحيدة للدخول إلى بنية الكيان أو “Entity” وهو ذكاء اصطناعي جامح خرج عن سيطرة الحكومات، يجد موجة تأييد من طائفة متطرفة ترى فيه “مخلصا رقميا تمرد على النظام البشري الفاشي.”
ويرفض هانت، ويعرض إنهاء التهديد بنفسه، فتوافق الرئيسة على مسؤوليتها الشخصية، ومن أجل إتمام مهمته يعود إلى جمع شمل فريقه بينجي “سيمون بيج”، ولوثار “فينج رامس”، الذي ينجح رغم مرضه في تطوير فايروس السم الكفيل بالقضاء على “الكيان”، وخلال المطاردات الأولية تظهر غريس “هايلي أتويل” وهي لصّة دولية محترفة تكلّف بسرقة “نصف مفتاح مشفر” تمثل القطعة الأولى من نظام يتحكم بالكيان، ويتقاطع طريقها مع إيثان هانت، الذي يلاحق نفس الهدف، وتنجح في خداعه مؤقتا وسرقة المفتاح، وتقع في قبضة الشرطة الإيطالية، ويقتحم هانت مركز الشرطة وينقذها لتنضم إلى فريقه.
يجمع الفريق معلومات عن غابريال “ايساي موراليس” وهو المساعد البشري لـ”الكيان”، ويقتفي أثره إلى غواصة روسية مغمورة تحت الماء، تخزن بداخلها نسخة من الشفرة، وخلال الرحلة يتم اختطاف إيثان وغريس في لندن للحصول على المفتاح، ويكتشف أن إيثان تورط في إنشاء “الكيان” عندما سرق “القدم الأرنب” من مختبر في شنغهاي لإنقاذ زوجته الراحلة جوليا.
◄ "الحساب الأخير" لم يلق الكثير من الإشادة فنيا واعتمد صناعه على مشاهد الأكشن التي تعد العلامة المميزة للسلسلة
توقف أم استمرار
تتواصل المطاردات بين فريق إيثان، وغابريال الذي يبذل محاولاته لإفشال المهمة المستحيلة، وفي المشهد الأخير نرى مطاردة جويّة في طائرة ثنائية السطح يقودها غابريال فوق الجبال، ويحاول إيثان السيطرة عليها وإسقاطه، حتى تنجح غريس في حجز الكيان داخل جهاز USB، ما ينهي تهديده ويحول دون إشعال حرب نووية.
وينتهي الفيلم بالمشهد المكرر في ختام كل أفلام السلسلة، وهو مشهد التسليم بين إيثان وبقية الفريق في لندن، لكن الملاحظ أن توم كروز لم يسلّم الفريق مهمة جديدة مثلما اعتاد في الأجزاء السابقة، إنما غادر بطريقة فردية، تاركًا الفريق أمام احتمالات مفتوحة، الأمر الذي زاد التكهنات بأن الجزء الثامن هو الأخير من السلسلة، كما تداولت العديد من الصحف والمواقع.
يعزز هذا الاعتقاد الاسم الذي تم اختياره للفيلم وهو “الحساب الأخير”، واختفاء لوثار من الفريق بعدما قتل خلال قيامه بتفكيك قنبلة نووية، ما يعني أن الفريق الأساسي لمهمة مستحيلة لم يبق منه سوى إيثان وبينجي فقط، كما أن تقدم توم كروز في العمر وتخطيه الستين بات عائقا يمنع تمكنه من تنفيذ مشاهد الأكشن العنيفة التي تضمنتها السلسلة في أجزائها الثمانية، ويصر كروز على أدائها بنفسه ولا يعتمد على “دوبلير”.
ويصعب الجزم بذلك، خصوصا في ظل الغموض الذي فرضه كروز على مستقبل السلسلة، والتضارب في حديثه، حيث صرّح عندما حضر العرض الافتتاحي للفيلم، أنه سيكون الأخير في سلسلة “مهمة مستحيلة”، وعاد وصرّح خلال حضوره مهرجان كان في مايو الماضي أنه ليست لديه خطط للتقاعد، بينما قال المخرج ماك كواري إن الجزأين السابع والثامن لن يكونا نهاية السلسلة، وهناك خطط لاستمرارها.
فنيا، لم يلق الفيلم الكثير من الإشادة في الخط الدرامي الذي تبناه أو في الصياغة غير المحكمة للسيناريو والحوار، وبدا واضحا اعتماد صناعه على مشاهد الأكشن، التي تعد العلامة المميزة للسلسلة منذ بدايتها قبل 29 عاما.
وكتب ديفيد إيرليخ في صحيفة “أنديا واير” منتقدا طول مدة الفيلم والمبالغة في الشرح، واعتبر أن الحبكة مشوشة، كما رأى البريطاني بيتر برادشو أن الفيلم يحمل “رسالة مناهضة للذكاء الاصطناعي ومشككة بالإنترنت، تقوض الحقيقة وتزرع العداء بين الأمم.”
بالمقارنة مع فيلم “Fallout” وهو السادس في السلسلة والمصنف باعتباره أقوى جزء فيها، يبدو “الحساب الأخير” أكثر نضجا وأقل توترا، لا يقدم الأكشن العنيف مثل الجزء السادس، ويعمد إلى سرد أكثر تعقيدًا حول الحقيقة، والحرية، والمراقبة المطلقة، حتى الإيقاع صار أبطأ، والخلاصة أن “الحساب الأخير” ليس أفضل أفلام السلسلة بالتأكيد، لكن قد يكون أهمها من حيث الطرح، إذ يقدم رجلا أو عميلا مهما يراجع نفسه وأعماله السابقة، مثلما يقدم عالما يتهدد وجوده بفضل التكنولوجيا التي صنعها وأنفق عليها التريليونات من الدولارات.