من "أميركا أولاً" إلى "قطر أولا": تعديل سياسة ترامب الشرق أوسطية
منطقة الخليج تعيش تحولات متسارعة في موازين القوى والتحالفات الإقليمية، مدفوعة بتقاطع المصالح الأمنية والاقتصادية بين واشنطن والعواصم الخليجية. وفي خضم هذه التغيّرات، تبرز قطر كلاعب محوري يعتمد سياسة خارجية متوازنة تجمع بين الدبلوماسية الهادئة والانفتاح على مختلف الأطراف، ما جعلها شريكاً رئيسياً في جهود الاستقرار الإقليمي ومحلّ اهتمام خاص في حسابات القوى الكبرى.
الدوحة - في خطوة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الأميركية – الخليجية، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً الاثنين الماضي يمنح قطر ضمانات أمنية شبيهة بالمادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي ( الناتو)، التي تنص على أن الهجوم على دولة عضو يُعتبر هجوماً على الجميع.
وبموجب هذا القرار، تلتزم واشنطن باعتبار أي اعتداء على أراضي قطر أو سيادتها أو بنيتها التحتية الحيوية تهديداً مباشراً للسلام والأمن القومي الأميركي، متعهدة باتخاذ كل الإجراءات الممكنة – الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية – لحماية مصالحها ومصالح الدوحة.
ورغم الطابع القانوني لهذا الإجراء، نظراً لأن الدستور الأميركي يمنح الكونغرس صلاحية إعلان الحرب والموافقة على المعاهدات، إلا أن الخطوة تكتسب أهمية سياسية واستراتيجية لافتة. فالرئيس يمتلك سلطة واسعة بموجب المادة الثانية من الدستور لتوجيه العمليات العسكرية باسم الأمن القومي، ما يمنح ترامب هامشاً كبيراً للتحرك دون موافقة مسبقة من الكونغرس.
ويشكل القرار تحوّلا لافتا عن نهج “أميركا أولاً” الذي رفعه ترامب شعارا لسياسته الخارجية. فإعطاء الأولوية لقطر يعكس إعادة تموضع في مقاربة واشنطن للعلاقات الشرق أوسطية، وربما محاولة لإعادة صياغة توازن القوى في الخليج.
ورغم أن الأمر التنفيذي يمنح ترامب مرونة في الرد على أي تهديدات تطال قطر، إلا أن أي نشر واسع للقوات الأميركية سيصطدم بتعهده بعدم شن حروب جديدة في ولايته الثانية، ما يضع سياسته بين منطق الردع وبين حدود التورط العسكري. ويأتي هذا القرار في أعقاب الغارة الإسرائيلية التي استهدفت الدوحة قبل أسابيع، والتي أسفرت عن مقتل عدد من عناصر حركة حماس وضابط أمن قطري.
وقد أحدثت العملية توترا دبلوماسيا واسعا، وأجبرت رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على تقديم اعتذار رسمي بضغط مباشر من ترامب داخل البيت الأبيض. ويقول المحللان جون هالتيفانغر وريشي أيينجار في تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي الأميركية إن الأمر التنفيذي يُعتبر رسالة صريحة لإسرائيل وغيرها من القوى الإقليمية بأن واشنطن باتت تنظر إلى أمن قطر كأولوية تتجاوز الحسابات التقليدية.
◄الأمر التنفيذي رسالة صريحة لإسرائيل وغيرها من القوى الإقليمية بأن واشنطن باتت تنظر إلى أمن قطر كأولوية تتجاوز الحسابات التقليدية
وتتجذر أهمية الخطوة أيضاً في سياق العلاقات الوثيقة بين البلدين. فقد صنّفت الولايات المتحدة قطر منذ سنوات حليفا رئيسيا من خارج الناتو، وتحتضن على أراضيها قاعدة العديد الجوية، أكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط، التي استهدفتها طهران في يونيو الماضي عقب الضربات الأميركية ضد منشآت إيران النووية.
ومع تصاعد التهديدات الإيرانية والإسرائيلية على حد سواء، شعرت الدوحة بأن مظلة الحماية الأميركية لم تعد مضمونة كما في السابق، الأمر الذي جعل القرار الجديد بمثابة تجديد صريح لالتزام واشنطن بأمن الإمارة الخليجية. كما أن قطر، التي لعبت دور الوسيط في أزمات متعددة مثل حرب غزة، وجدت في هذا القرار تأكيداً على مكانتها كشريك موثوق في الترتيبات الإقليمية. غير أن هذا التقارب لا يخلو من تداخل الاعتبارات السياسية والاقتصادية في المنطقة.
وفي وقت سابق من هذا العام، قدّمت قطر لترامب طائرة فاخرة من طراز “بوينغ 747” بقيمة 400 مليون دولار لتُستخدم لاحقاً كطائرة رئاسية أميركية جديدة. كما أعلنت “منظمة ترامب” في أبريل عن صفقة ضخمة لتطوير منتجع غولف فاخر في قطر بمليارات الدولارات.
وتجعل هذه التداخلات بين السياسة والاقتصاد من القرار التنفيذي أكثر من مجرد التزام أمني، بل أداة لتكريس شبكة نفوذ جديدة تربط الأمن الأميركي بالاستثمارات الخليجية. وتُعد قطر اليوم واحدة من أكثر الدول تأثيراً في البيئة الجيوسياسية الخليجية، بفضل قدرتها على الجمع بين الانفتاح الدبلوماسي والبراغماتية السياسية في منطقة تهيمن عليها المنافسة والصراعات.
ومنذ عقود تبنت الدوحة سياسة خارجية قائمة على توازن المصالح لا على المحاور، مستندة إلى رؤية استراتيجية تعتبر أن الاستقرار الإقليمي لا يتحقق إلا عبر الوساطة والحوار لا المواجهة والصدام. وقد مكّنها هذا النهج من التحول إلى لاعبٍ أساسي في معادلات الأمن والسياسة الإقليمية، رغم صغر مساحتها الجغرافية مقارنة بجيرانها.
و أدركت قطر مبكرا أن موقعها الجغرافي بين القوى الكبرى في الخليج – السعودية وإيران والإمارات – يفرض عليها تبني سياسة حذرة ومتوازنة تضمن بقاءها مستقلة عن الاستقطابات الحادة.
ومن هنا جاءت استراتيجية التوازن التي تعتمد على تعزيز التحالف مع الولايات المتحدة من جهة، والانفتاح على القوى الإقليمية الأخرى من جهة ثانية، مع الإبقاء على قنوات اتصال مفتوحة مع جميع الأطراف، بما في ذلك القوى التي تختلف مع واشنطن في ملفات عديدة مثل طهران أو حركة طالبان أو الفصائل الفلسطينية.
وجعل هذا الحياد النشط من الدوحة عاصمة الوساطة في الشرق الأوسط. فقد احتضنت المفاوضات بين واشنطن وطالبان التي مهدت للانسحاب الأميركي من أفغانستان عام 2021، كما لعبت دورا محوريا في التوصل إلى تفاهمات إنسانية في حرب غزة، فضلا عن مساهمتها في تقريب وجهات النظر في أزمات السودان ولبنان واليمن. ولم تكتسب هذه الأدوار أهميتها فقط من نتائجها المباشرة، بل من القدرة القطرية على جمع الخصوم إلى طاولة واحدة في لحظات كانت فيها القنوات الدبلوماسية التقليدية مغلقة تماما.
◄ في ظل التوترات المتزايدة في الخليج تبرز قطر كـ نقطة توازن استراتيجية تمارس دور "الوسيط المستقر" الذي يملأ الفراغات
ومن منظور غربي، تمثل قطر نموذجاً فريداً في المنطقة يجمع بين الاستقرار الداخلي والانفتاح الخارجي. فهي دولة ذات مؤسسات مستقرة، ذات رؤية اقتصادية بعيدة المدى، وتتبنى سياسات متقدمة في مجالات الطاقة والتعليم والإعلام، ما يجعلها بيئة آمنة للشراكات الغربية على المدى الطويل. كما أن استضافتها لأكبر قاعدة عسكرية أميركية في الشرق الأوسط – قاعدة العديد – لم تُترجم إلى تبعية سياسية، بل إلى شراكة قائمة على الاحترام المتبادل والمصالح المشتركة، وهو ما يعزز صورتها كشريك موثوق وليس تابعاً.
وفي ظل التوترات المتزايدة في الخليج – من التنافس السعودي الإيراني إلى اضطراب أسواق الطاقة العالمية – تبرز قطر كـ نقطة توازن استراتيجية تمارس دور “الوسيط المستقر” الذي يملأ الفراغات التي تتركها القوى الكبرى أو يخفف من حدة المواجهات بينها. وقد أصبح واضحا أن الدوحة لا تسعى إلى لعب دور القوة المهيمنة، بل إلى أن تكون صوتا عقلانيا يسعى لتثبيت الحوار وحماية الاستقرار الإقليمي من الانفجار.
ولهذا السبب، تنظر الولايات المتحدة إلى قطر باعتبارها ركيزة استقرار لا يمكن الاستغناء عنها في الخليج. فحماية قطر تعني عملياً حماية القنوات الدبلوماسية المفتوحة بين واشنطن وخصومها الإقليميين، وضمان وجود شريك يتمتع بالمصداقية لدى مختلف الأطراف.
ومن هذا المنظور، لم يكن قرار الرئيس الأميركي بمنح الدوحة ضمانات أمنية مجرد خطوة رمزية، بل تعبيراً عن إدراك متزايد في واشنطن بأن أمن قطر جزء لا يتجزأ من استقرار الخليج بأسره، وأن استمرار دورها الوسيط يصب في مصلحة النظام الإقليمي والدولي على حد سواء.
وتُمثل قطر اليوم نموذجا فريدا في الخليج العربي: دولة صغيرة بحجمها، كبيرة بتأثيرها، تجمع بين الدبلوماسية الهادئة والفاعلية السياسية. ونجحت الدوحة في ترسيخ مكانتها كركيزة استقرار وفاعل موثوق، ما يجعل أي التزام أميركي تجاهها ليس مجرد تحالف ثنائي، بل ضمانة لاستمرار التوازن في واحدة من أكثر مناطق العالم حساسية.