معالم رسم خارطة مخاطر الطاقة زمن الحروب
تسود حالة من الترقب في أسواق الطاقة العالمية منذ أن شنت إسرائيل هجمات على مواقع عسكرية ونووية في إيران في منتصف يونيو الماضي، أعقبتها ضربات متبادلة، ما يهدد بإشعال منطقة إستراتيجية تضخ نحو ثلث إنتاج النفط العالمي. وقد تصاعدت المخاوف من احتمال حدوث اضطرابات في إمدادات الطاقة، خاصة بعد أن استهدفت طائرات إسرائيلية مسيّرة حقل بارس الجنوبي للغاز في محافظة بوشهر جنوب إيران، بينما ألحقت الصواريخ الإيرانية أضرارًا بمصفاة نفط رئيسية في مدينة حيفا، بحسب ما أوردته صحيفة “تايمز أوف إسرائيل”.
ووفقًا لمجلة “إيكونوميست” البريطانية، فإن استمرار التوتر لأيام أو أسابيع قد يؤدي إلى تراجع في إمدادات النفط الإيرانية، التي تبلغ حاليًا نحو ثلاثة ملايين ونصف مليون برميل من النفط الخام يوميًا، إضافة إلى قرابة ثمانمئة ألف برميل من مكثفات الغاز. ورغم أن هذه الكمية لا تمثل سوى نسبة ضئيلة من المعروض العالمي، فإن التقديرات تشير إلى احتمال ارتفاع أسعار النفط بما يتراوح بين خمسة وعشرة دولارات للبرميل، وقد تقترب الأسعار من حاجز التسعين دولارًا.
تاريخيًا، شهدت أسعار النفط تقلبات حادة بفعل الأزمات الجيوسياسية. فمنذ أن تجاوز سعر البرميل دولارين في سبعينيات القرن الماضي، ارتفع تدريجيًا متأثرًا بحظر النفط عقب حرب أكتوبر، ثم قفز إلى مستويات أعلى مع اندلاع الثورة الإيرانية، والحرب العراقية – الإيرانية، واجتياح العراق، وصولًا إلى ذروته في صيف عام 2008 حين بلغ نحو مئة وستة وأربعين دولارًا. ثم تراجعت الأسعار بفعل الأزمة المالية العالمية، قبل أن تعاود الارتفاع مع أحداث الربيع العربي، لتصل إلى أكثر من مئة وعشرين دولارًا.
لاحقًا، أدت الطفرة في إنتاج النفط الصخري الأميركي إلى فائض في السوق، ما تسبب في انخفاض الأسعار بشكل حاد، حيث تراجعت من أكثر من مئة دولار في عام 2014 إلى أقل من ثلاثين دولارًا بعد عامين فقط. ومع استمرار ضعف الاقتصاد العالمي، ظلت الأسعار منخفضة نسبيًا، إذ بلغ متوسطها نحو ستة وستين دولارًا في عام 2019، ثم انخفضت قليلًا في العام التالي، قبل أن تعود للارتفاع إلى أكثر من سبعين دولارًا في عام 2021، وتقترب من حاجز المئة دولار خلال الحرب الأوكرانية في العام التالي. ورغم استمرار الحرب، تراجعت الأسعار إلى نحو ثلاثة وثمانين دولارًا في عام 2023، لكنها بقيت مرتفعة نسبيًا خلال النصف الأول من عام 2024، مدفوعة بتخفيضات طوعية من دول “أوبك بلس”، التي قررت ثمان منها تمديد خفض الإنتاج بمقدار يزيد عن مليوني برميل يوميًا.
◄ السعودية حذّرت مرارًا من مخاطر التصعيد الإقليمي، مؤكدة أنها تسعى إلى استقرار أسواق الطاقة العالمية، وضمان أمن سلاسل الإمداد، وهو ما يجعل خارطة المخاطر الاقتصادية والمالية العالمية في حالة إعادة رسم مستمرة
أيّ خلل في تدفقات النفط الإيرانية قد يكون كافيًا للقضاء على الفائض المتبقي في السوق خلال ما تبقى من عام 2025، ما قد يدفع الأسعار إلى مستويات أعلى. ويزداد القلق مع تهديد إيران بإغلاق مضيق هرمز، الذي يمر عبره نحو ثلث النفط الخام المنقول بحرًا، وخُمس الغاز الطبيعي المسال. ووفقًا لوكالة الطاقة الدولية، عبر المضيق نحو عشرين مليون برميل يوميًا من النفط الخام والمنتجات المكررة في عام 2023، وهو ما يمثل قرابة ثلث تجارة النفط العالمية، يذهب معظمها إلى آسيا، حيث تُعد الصين والهند واليابان من أبرز المستوردين.
ولا يقتصر تأثير الأزمة على الأسعار فقط، بل يمتد إلى أمن الطاقة العالمي، خاصة مع افتقار بعض المضائق البحرية إلى بدائل عملية. وإذا ما تم تهديد أو إغلاق مضيق باب المندب، فإن الأزمة ستتفاقم، ما يؤدي إلى تقليص حاد في الإمدادات، وربما إلى مواجهة إقليمية واسعة. وفي هذا السياق، صرّح إسماعيل كوثري، عضو لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني، بأن طهران تدرس بجدية خيار إغلاق مضيق هرمز، ما يرفع منسوب القلق من تحول الصراع إلى أزمة طاقة عالمية.
وبحسب شبكة “يورونيوز”، فإن الولايات المتحدة، التي يسعى رئيسها دونالد ترامب إلى إبقاء أسعار النفط منخفضة، والصين، التي تعتمد بشكل كبير على واردات النفط من الخليج، أرسلتا قوات بحرية لتأمين هذا الممر الحيوي.
ورغم تشكيك بعض الخبراء في قدرة إيران أو رغبتها في تنفيذ تهديدها، نظرًا إلى ما قد تترتب عليه من آثار سلبية على صادراتها، فإن الورقة لا تزال ثقيلة، وقد تضع طهران في مواجهة مباشرة مع دول الخليج، خاصة بعد التهدئة التي رعتها السعودية برعاية صينية في مارس 2023. ولا يُتوقع أن تُقدم إيران على هذه الخطوة، إذ لا ترغب في خسارة السعودية، التي أدانت الضربات الإسرائيلية واعتبرتها انتهاكًا للسيادة، مؤكدة أن الحل الوحيد هو عبر المفاوضات.
في المقابل، تمتلك السعودية بدائل لتصدير نفطها عبر خط أنابيب يصل إلى البحر الأحمر بطاقة تصل إلى خمسة ملايين برميل يوميًا، كما تمتلك الإمارات خط أنابيب إلى ميناء الفجيرة يتجاوز المضيق، ويمكنه نقل ما يصل إلى مليون ونصف مليون برميل يوميًا.
الضربة الإسرائيلية ضد إيران رفعت منسوب التوتر في منطقة تُعد العمود الفقري لإنتاج النفط والغاز عالميًا، وأعادت إلى الأذهان سيناريوهات الحرب في أوكرانيا، حين قفزت الأسعار بشكل مفاجئ. وقد حذّرت السعودية مرارًا من مخاطر التصعيد الإقليمي، مؤكدة أنها تسعى إلى استقرار أسواق الطاقة العالمية، وضمان أمن سلاسل الإمداد، وهو ما يجعل خارطة المخاطر الاقتصادية والمالية العالمية في حالة إعادة رسم مستمرة.